- 1 -
حظي الفعل الثقافي في المملكة - منذ تأسيسها - بدعمٍ سخي، أخذ ينمو مع النمو السكاني، ويتسع باتساع التطلعات، لكنّ هذا الدعم ارتبط - في الجملة - بمبدأ (المسؤولية الاجتماعية) بمستواها الحكومي، إذ تَمثّل أغلبه في إنشاء عدد محدود من الكيانات الثقافية، وتقديم الإعانات السنوية لها، وبناء المكتبات العامة، والاحتفاء بالمناسبات الثقافية، وتكريم الرموز، وكان هذا كله أو أغلبه في حدود مجالات التاريخ والأدب والنقد الأدبي والمحافظة على التراث، وبصورة أقل في بعض المجالات الفنية، ولم يكن ثمة عامل يدفع باتجاه تفعيل جميع القطاعات الثقافية، أو يشجّع على تحميل الفعل الثقافي وظائفَ مركّبة.
ما حصل بعد إطلاق رؤية المملكة 2030 هو - باختصار - نقل الفعل الثقافي إلى مكانٍ متقدم، يمكّنه من المشاركة الفاعلة والمباشرة في التنمية، وقد حُوّل هذا التوجه إلى برنامج عمل بإنشاء وزارة الثقافة، ثم الهيئات التابعة لها.
-2-
أن يكون الفعل الثقافي مساهماً في التنمية فهذا يعني أنّ تطوير البنية التحتية للفعل الثقافي أضحى أمراً مُلِحّاً، وهذا ما حصل فعلاً، فقد اتخذت وزارة الثقافية خلال السنتين الماضيتين عدداً من الإجراءات الإصلاحية؛ لتمكين الفعل الثقافي، وجَعْله قادراً على الإسهام المباشر في التنمية، من ذلك:
1. إعداد الدراسات المسحية عن واقعنا الثقافي، وبناء قاعدة بيانات تساعد على تحديد نقاط القوة ونقاط الضعف ورصد الفجوات، بالقدر الذي يمكّن من استعراض أكبر قدر من خيارات المعالجة، ثم اختيار المناسب منها. ويمكن التعرّف على حجم هذه الدراسات وأثرها من خلال التقارير التي نشرتها الوزارة عن الحالة الثقافية (في عامي: 2019 و2020)، وما تضمّنته موادها الإعلامية عن الإستراتيجيات والمبادرات والمشاريع وغيرها.
2. التخطيط الإستراتيجي الشامل، وهو أحد أهم الأسس التي كان يفتقر إليها الفعل الثقافي في بلادنا على مدى عقود؛ وقد أفضى بنا هذا المسار إلى سلسلة متصلة من الخطط الإستراتيجية:
- إستراتيجية وطنية للثقافة، منسجمة مع أهداف رؤية المملكة 2030.
- ثم خطة إستراتيجية لكل قطاع ثقافي، منسجمة مع إستراتيجية الوزارة.
- ثم (دراسة جدوى) و(خطة تنفيذية) لكل مبادرة أو مشروع أو برنامج، ترتبطان بإستراتيجية القطاع الذي تمثله.
3. العمل على سدّ النقص في منظومة الفعل الثقافي، وتحديداً في الجزء الإداري منه، من خلال الاستحداث أو التغيير أو التطوير في الجوانب: (التشريعية) و(البشرية) و(المالية).
-3-
ولأهمية الإجراء الأخير يمكن أن أستدعي - على سبيل المثال - (صندوق التنمية الثقافية) بوصفه إحدى مبادرات وزارة الثقافة؛ ليكون مثالاً جامعاً لهذا الإجراء من وجوه متعددة.
لقد أنشئ هذا الصندوق - كما تشير المادة الثالثة من نظامه - بهدف «الإسهام في دعم التنمية الثقافية والمجالات المتصلة بها واستدامتها»، وهو بهذا الهدف المباشر ينتمي إلى عائلة (الصناديق التنموية) التي حققت بها الدولة على امتداد عقود الكثيرَ من المستهدفات في مجالات متعددة، كصندوق التنمية الاجتماعية (البنك السعودي للتسليف سابقاً) 1971م، وصندوق التنمية الصناعي السعودي 1974م وصندوق التنمية الزراعية (البنك الزراعي) 1963م، وصندوق التنمية العقاري 1975م، فقد بدأت هذه الصناديق بمثل ما بدأ به صندوق التنمية الثقافية، وكانت أهدافها على منوال هدفه، في التوجه إلى إحداث أثر تنموي في المجال الذي تستهدفه. بل حتى رأس المال بدا متقارباً، فصندوق التنمية الصناعي - على سبيل المثال - بدأ برأس مالٍ قدره خمسُ مئة مليون، وهو عينه رأس المال الذي بدأ به صندوق التنمية الثقافية.
وربما تمتّع صندوق التنمية الثقافية بقيمة مضافة؛ لمجيئه بعد نصف قرن تقريباً من انطلاقة الصناديق التنموية في المملكة، الأمر الذي سيتيح له الاستفادة من تجربتنا الوطنية الثرية في إدارة الجوانب البنيوية والتشغيلية والتطويرية لهذا النوع من الصناديق.
وثمة إضافة أخرى عالية الأهمية هي أن هذا الصندوق يرتبط تنظيمياً بصندوق التنمية الوطني، وقد أنشئ الأخير في مطلع عام 1439هـ بهدف رفع مستوى أداء الصناديق التنموية وتوجيهها لتحقيق أهداف رؤية 2030، وما من شك في أن هذا الارتباط النوعي سيسهم في تجويد أداء صندوق التنمية الثقافية، وسيتيح له فرصة التنسيق والتكامل مع الصناديق الأخرى، ولا سيما ذات الصلة بالفعل الثقافي كـ (صندوق التنمية السياحية) و(صندوق الفعاليات).
-4-
يستند صندوق التنمية الثقافية إلى نظام يتيح له تقديم حزمة من الخدمات لصالح القطاعات الثقافية؛ وقد تضمنت المادة الرابعة من نظامه الإشارة إلى:
- امتلاكه صلاحية تقديم الخدمات غير المالية في المجالات الثقافية.
- والتشجيع على الاستثمار في المجالات ذات العلاقة بالقطاع الثقافي.
- وتقديم المشورة للمنشآت والجمعيات والمؤسسات الأهلية التي تعمل في المجال الثقافي.
لكنّ الفائدة البارزة للصندوق تتمثَّل في الإقراض وتمويل المنشآت والجمعيات والمؤسسات الأهلية التي تعمل في المجالات الثقافية، أو الخدمات المساندة لها، أو في تطوير التقنية أو المشروعات المتعلقة بالبنية التحتية التي تخدمها.
إن استعرض نظام هذا الصندوق، وتتبّع منطلقاته وأدواته وغاياته، يشفّان لنا عن أمرين مهمين:
- الأول: توجه الدولة إلى منح الفعل الثقافي دوراً مركزياً في التنمية من خلال رؤية 2030.
- والثاني: حرص وزارة الثقافة على تهيئة الفعل الثقافي وإدارته؛ للقيام بهذا الدور الإستراتيجي.
إننا أمام تحول كبير في عمق الفعل الثقافي، لا يمكن تقييم أهميته إلا بفهم المتحول منه والمتحول إليه، والمسافة الفاصلة بين العمل تحت مبدأ (المسؤولية الاجتماعية) والعمل بمبدأ (المساهمة في التنمية).
** **
- د. خالد الرفاعي