اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
وفي السياق نفسه فإن تكاليف الاحتلال والخسائر المترتبة عليها أصبحت أمراً لا يُطاق بالنسبة للحكومات الأمريكية المتعاقبة والشعب الأمريكي، وذلك بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية والجائحة الوبائية المتفاقمة، مع الأخذ في الحسبان أن الانسحاب على المستوى الرسمي والشعبي يمثِّل مطلباً شعبياً وهدفاً انتخابياً يتفق عليهما مرشحا الرئاسة من الحزبين الحاكمين والمجلسين البرلمانيين.
وبعض الدواعي الداعية إلى الانسحاب تهدف إلى تداعيات محتملة يعتبر حدوثها مرهوناً بالمستجدات والمتغيرات التي يعتمد حصولها على جهود استخباراتية ونشاطات سرية تلتقي مع ما تؤول إليه سياسة الفوضى المدمرة والمؤامرات المستترة من مآلات وما ينتج عنها من نتائج وتنتهي إليه من نهايات.
وموقع أفغانستان الإستراتيجي وتركيبتها السكانية وعقيدة الشعب الدينية، وتاريخها المثقل بالحروب والتدخلات الأجنبية، واحتضانها لبعض التنظيمات الإرهابية وجوارها الموغل في النزاعات والقديم في الحضارات، كل ذلك مدعاة لأن يترتب على الانسحاب الأمريكي الكثير من التداعيات التي تبدأ برسم خريطة لتفاعلات الجوار وردود فعله تجاه ما يحصل في أفغانستان ويتمثَّل هذا الجوار في الصين وروسيا والباكستان وإيران مع التنافس بين كل من الصين والهند وباكستان وكذلك بروز الدور التركي في هذا التفاعل والتنافس.
وفي خضم هذه التداعيات فإن أمريكا تعتقد أن انسحابها من أفغانستان، وسيطرة طالبان عليها سوف يخلق مشكلات للدول المجاورة وبالتحديد الصين وروسيا وإيران على النحو الذي يدفعها إلى المواجهة مع طالبان والدخول فيما يمكن اعتباره نوعاً من أنواع الفوضى الخلاَّقة، وهذا الاعتقاد له ما يبرره إذا ما وفرت حركة طالبان ملاذاً آمناً للتنظيمات الإرهابية المناهضة لهذه الدول وفرضت عليها واقعاً تراهن عليه الإدارة الأمريكية، أما إذا الحركة أحسنت التصرف ونبذت التطرف وحكمت حكماً رشيداً يخدم مصالح الشعب الأفغاني، ويحرص على وجود علاقات متوازنة مع دول الجوار وبقية دول العالم فإن الرياح سوف تجري في الاتجاه الذي يعاكس الرغبة الأمريكية ويُجهض المراهنات والمؤامرات التي تعوِّل عليها.
والمحتل الأمريكي انسحب من أفغانستان وهو يراهن على تداعيات كثيرة من ضمنها أن هذا البلد سيظل ملاذاً للتنظيمات الإرهابية والمتطرفة، وبؤرة من بؤر إثارة القلاقل وعدم الاستقرار في الداخل وتصدير الفتن والإرهاب إلى الخارج، وهذه المراهنة في حقيقتها ما هي إلا مؤامرة مبيتة ومكيدة مدبرة بليل، يتداعى لها جملة من التداعيات، يذكّرنا أحدها بما حدث في العراق عندما أدى خروج القوات الأمريكية إلى فتح الباب على مصراعيه لتنظيم الدولة وإيران وأذرعها لارتكاب جرائم القتل والتهجير والتدمير في هذا البلد واحتلاله، وما عقب ذلك مما يعرف بالربيع العربي في عدد من الدول العربية.
وإرهاصات ما يحصل في أفغانستان تدل على محاولة لتكرار المشهد بشكل آخر، فالإرهاب المصنوع في عهد الرئيس الأمريكي بوش الابن والمصنوع في عهد أوباما تحاول أمريكا أن يتشكل الإرهاب من جديد ليعيد تنظيمه، مستفيداً من البيئة الحاضنة والأصداء المتجاوبة بالشكل الذي يمهد له الطريق لتبني ربيعاً من نوع آخر ينطلق من منطلقات تدميرية واعتبارات مصيرية تهدف إلى شرذمة دول عربية وإسلامية وانتهاك سيادتها واستبدال انتماءاتها الدينية والثقافية والوطنية والقومية ببدائل مستوردة تنفيذاً لمشروع الشرق الأوسط الكبير وخدمة للدولة اليهودية وأحلامها التوسعية.
وفي الختام فإن العاقل هو من يعرف الأمور وهي مقبلة أما عندما تكون مدبرة فإنه يعرفها العاقل والجاهل الأمر الذي يتطلب من دول الشرق الأوسط الإسلامية وبالتحديد الدول العربية أن تعد نفسها لأسوأ ما ينتظرها من الاحتمالات والتداعيات مع عمل ما يلزم لتكثيف التوعية ودعم الفكر التنويري المبصر بجميع الوسائل الممكنة من أجل كبح الفكر المتطرف ومنعه من النمو والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.
وكما يتعيَّن على الشعوب التكاتف فيما بينها والالتفاف خلف قياداتها لتفويت الفرصة على مثيري الفتن الذين يتصيدون في الماء العكر ويتربصون بالأمة الدوائر فإنه يتحتم على هذه القيادات أن تقود بالعدل وتصلح فسادها وتحد من استبدادها وعمل كل ما من شأنه توفير وحشد القوة الجزئية للدولة والكلية للأمة بجميع عناصرها الثقافية والفكرية والسياسية والعسكرية والاقتصادية في سبيل الدفاع عن الدين وحماية الأوطان.
وينبغي على جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي أن تؤدي دورها المطلوب منها وتعمل على تقوية الانتماءات الدينية والثقافية والقومية والوطنية في سبيل توحيد صف الأمة وجمع كلمتها ونبذ عوامل الفرقة لتمكين الأمة العربية والإسلامية في هذه المرحلة المصيرية من التكاتف والتحالف ضد أعداء الداخل من البغاة والمفسدين وأعداء الخارج من دعاة الاستعمار والصليبية واليهودية الذين يحاولون تهميش الدين الإسلامي وتطويعه بما يتفق مع أهدافهم.