د. محمد بن إبراهيم الملحم
المعلم عندما يضع أسئلته الاختبارية قد يكون بين طرفي نقيض إما أن تجدها سهلة لا يعتد بها في التفريق بين طالب مجد وآخر مهمل نسبياً وكل الطلاب تقريباً يحلونها، إلا فئة قليلة شاذة، أو تجدها صعبة المنال، والسبب ليس عدم استذكار الطالب للدرس وامتلاكه للمعرفة ومهارات الدرس ولكن لما فيها من إلغاز واتكاء على ذكاء الطالب لاكتشاف «فهلوة» المعلم في لغة السؤال أو تعبيراته، وذلك على مذهب من يسألك «ما هو الشيء الذي وسط باريس؟» ليكون الجواب هو حرف الراء حتى لو كنت فعلاً تعرف شيئاً يقع وسط باريس وأجبت به! ربما يصعب علي الآن أن أستشهد لكم بأمثلة مباشرة لكني أجزم أن أكثركم مرت به هذه الظاهرة عندما كان طالباً، وهي لا تزال موجودة وستظل إلى عهود طويلة لأنه مرض عضال أصاب أيضاً بعض الكتب العلمية المنهجية، فمؤلفوها يتفننون في طرح أسئلة لا تدرك مغزاها إلا بإعمال الذهن في «لغتها» أو في ما وراء السؤال! وأفضل طريقة للتأكد أن سؤالاً ما متهماً بأنه من هذا النوع هو أن تعيد كتابة السؤال وتصيغه بطريقة أخرى دون أن تخل بأي شيء مما ورد في معلوماته، وستجد أن نسبة كبيرة جدا من الطلاب التي لم تتمكن من حله سابقاً قامت بحله فعلاً.
والواقع إن الأسئلة من هذا النوع تصلح لقياس «ذكاء» الطالب وقدراته العقلية، بينما هي في مكان يفترض أنه يهدف إلى قياس «تحصيل» الطالب وامتلاكه للمعارف والمهارات التي قدمها الدرس أو الكتاب وليس قياس ذكائه، ولذلك فالأسئلة التحصيلية عندما تشوّش عليها هذه الظاهرة تجعل من الدراسة والتحصيل أمراً عسيراً وهدفاً صعباً وتقوّض في الطالب ثقته بنفسه وقدراته وتتحدى طاقته المحدودة بما قدم له في الدرس، ولذلك فإن كثيراً من الطلاب المجدين يلجأون إلى الدروس الخصوصية أو إلى مصادر أخرى يتدربون من خلالها على مثل هذه الأسئلة، وعلى الرغم من أن هذه الظاهرة منتشرة بقوة في المرحلة الجامعية وخاصة في التخصصات العلمية، بل تكاد تكون هي الوسيلة الأساس للتقييم عند أغلب أساتذة التخصصات العلمية إلا أن وجودها في التعليم العام له خطورته وأضراره الكبيرة.
الهدف التربوي من العملية الاختبارية هو تقييم إلى مدى يمتلك الطالب المعارف والمهارات التي درسها ويستطيع تطبيقها في مشكلات تتحدى ملكاته التفكيرية العليا مثل التحليل والاستنتاج (بعض المعلمين المتفهلوين يظن أن مثل هذه الأسئلة الإلغازية هي أسئلة مهارات تفكير عليا!)، فإذا كانت الأسئلة سهلة تافهة لم تحصل أي استثارة لتفكير الطالب ولا تحريك لملكاته العقلية العليا ويظل يعيش على منهج حفظ المعلومات واستظهارها دون إعمال الفكر، وإذا كانت الأسئلة إلغازية لا تتحدى قدراته التفكيرية فيما هو متعلق بالموضوع ذاته وإنما فيما هو حوله من مظاهر في شكل السؤال وتركيبه أو في فكرة جديدة كليا عليه لم يطرقها المعلم ولكنه ذخرها لتدور أسئلته الإلغازية حولها فإن الطالب يصاب باليأس ويكره العلم، ولا يجوز للمعلم أو الأستاذ الجامعي أن يقدم المادة العلمية بشكل سطحي ثم لا يسأل أسئلة عميقة إلا في الاختبار فقط، ولكن إذا طرح الأسئلة العميقة أثناء شرحه وتناول طرق ومداخل التفكير فيها مع طلابه ثم سألهم فيها ضمن واجبات أو أوراق عمل فتدربوا عليها جاز له بعد ذلك أن يطرح عليهم ما يماثلها في المستوى ضمن اختباراته، وهنا يتميز الطالب المجتهد والمتابع عن غيره ممن اكتفى بسطحية المادة ولم يعبأ بدراسة أعماقها والتدرب على أسئلتها التفكيرية كسلاً منه عن كد الذهن ومتابعة أستاذه، وهنا أيضاً يتميز الأستاذ الكسول أو غير الواعي تربوياً عن ذلك المتمكن تربوياً وعلمياً والذي يقوم بتدريب طلابه وإكسابهم مهارات التفكير وكيفياته من خلال وفرة الأمثلة والتطبيقات ثم يكون قادراً بعد ذلك أن يستجلب ما يوازيها في المستوى (وليس ما يماثلها أو يطابقها) ليقدّمها لهم في الاختبارات.
** **
- مدير عام تعليم سابقاً