اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
وبعد مضي عقدين من الزمن على احتلال أمريكا لأفغانستان لابد من التساؤل عن ما هي الأهداف التي حققها المحتل وما هي الفوائد التي جناها الواقع عليه الاحتلال طيلة هذه الفترة؟ والجواب على هذا التساؤل هو أن الولايات المتحدة الأمريكية مقابل إضعاف تنظيم القاعدة والحد من خطره على مصالحها خسرت الكثير من الأرواح والعتاد وأنفقت الأموال الطائلة دون أن يثمر الاحتلال في النهاية عن النجاح الذي يمكن اعتباره ثمناً للتضحيات والتكاليف والأعباء التي تحملتها الإدارة الأمريكية طيلة المدة الزمنية للاحتلال بما في ذلك دعم الحكومة العميلة التي لم تحسن استخدام هذا الدعم بسبب الفساد المستشري في أجهزتها والمعاناة التي يعانيها الشعب الأفغاني من جراء هذا الفساد ومظاهر الاحتلال التي ألقت بظلالها المهينة على كرامته وخدشت شرف وطنيته.
وعلاوة على المعاناة المزمنة بالنسبة للشعب الأفغاني الذي عانى الأمرَّين من جراء الحروب والعمليات الإرهابية فإن المعاناة تضاعفت بسبب ممارسات الاحتلال وفساد الحكومة المصنوعة من قبل المحتل نتيجة لما ترتب على ذلك من انعدام الدافع والرغبة لدى منسوبي القوات العسكرية والأمنية في القتال والمجازفة بحياتهم من أجل حكومة فاسدة في ظل محتل ظالم، كما أن استياء الشعب وعدم الثقة في هذه الحكومة على ضوء ما يتعرضون له من الغارات الجوية الأمريكية، وما يعانونه من تجاوزات المتعاونين مع هذه القوات من المحسوبين على الوطن، كل هذه المنغصات مكّنت حركة طالبان من تحقيق المكاسب الوطنية التي مهدت الطريق لها نحو النجاح حتى وصلت إلى ما وصلت إليه.
وقد اكتوى الشعب الأفغاني بنار المحتل الأمريكي الذي جثم على صدره طيلة عشرين عاماً، مدعياً إصلاح العادات من حيث أراد تدمير العبادات، ومحاولاً التضليل على قبح الاحتلال والاستعمار بتغليفه بغلاف إعادة الإعمار، كما جعل من أفغانستان مسرحاً للخراب والدمار إلى الحد الذي أصبح معه المواطن الأفغاني ضحية للجهل والمرض والفقر في بيئة يتربص بها الأعداء من كل مكان.
وبما أن القوة عادة ما يغلب عليها سُكْرها وغرورها والنوايا المبيتة يغطي ظلالها على نورها، والأشرار لابد أن تعاني في يوم من الأيام من تبعات شرورها، فإنه مما لا يختلف عليه اثنان من القدر والمكر غالباً ما يحيق بأهله، والسحر عادة ما ينقلب على الساحر، وهذا هو حال الرئيس الأمريكي الذي زين له سكر القوة وغرورها اتخاذ قرار الانسحاب من أفغانستان بهذه الصورة المذلة التي رضي لنفسه من خلالها باختيار طريق الفشل ولطخ صورة بلاده بالوحل، وجرح سمعتها وهيبتها جرحاً من الصعب أن يندمل، حيث تم الانسحاب بطريقة مهينة على شكل مسرحية مشينة جعلت الانسحاب المنظم يتحول إلى هزيمة وعمليات الإجلاء من المطار تسيطر عليها الفوضى والمشاهد المؤلمة.
ورغم أن الانسحاب تم الاتفاق عليه مع طالبان من قبل إدارة جمهورية واستغرقت المحادثات بشأنه زمناً طويلاً بحضور طرف ثالث، وتولى التنفيذ إدارة ديموقراطية إلا أن النتيجة ينطبق عليها المثل العربي الذي يقول: تمخض الجبل فولد فاراً، وجرت الرياح بما لا تشتهي السفن، فالمشهد تسطير عليه المتناقضات ويحتمل الكثير من التداعيات على النحو الذي يؤكد أن خبث النية يقود إلى خبث العمل والغاية الخبيثة دائمًا وسيلتها خبيثة والمحصلة تُثبت أن من استرشد غوياً ضل ومن أدنى خائناً ذل.
والدوافع التي دفعت الإدارة الأمريكية إلى الانسحاب من أفغانستان في هذا الوقت بعضها واضح والبعض الآخر يلفه الغموض، ومهما كانت دواعي الانسحاب ودوافعه فإنها لا تبرر الطريقة التي تم بها والقبول بالتحول من انسحاب منظم ومسيطر عليه إلى انسحاب فوضوي خارج عن السيطرة بصورة تذكر بما حصل في فيتنام في السبعينيات.
وانهيار الحكومة العميلة وقوتها العسكرية والأمنية لا يعد عذرًا مقبولاً لما حصل في مطار كابل وقبول النزول إلى درك الإهانة والوقوع في شرك الخيانة بالنسبة لأقوى دولة في العالم على انسحاب جرى التخطيط له مسبقاً والاتفاق عليه مع حركة مقاومة تم التواطؤ معها على حساب الشريك الأفغاني وعشرين سنة من الاحتلال.
وحسب ما تردد على ألسنة المسؤولين الأمريكيين وعلى رأسهم الرئيس الأمريكي بأن الهدف من احتلال أفغانستان قد تحقق ولم يعد هناك سبب يدعو إلى استمرار الاحتلال، فتنظيم القاعدة الإرهابي تم دحره ولم يعد يشكل خطراً على المصالح الأمريكية في المنطقة في الوقت الذي يوجد فيه مناطق أخرى يعتبر الإرهاب فيها تحدياً للأمن القومي الأمريكي والمصالح الأمريكية، كما أن التفرغ للتصدي للنفوذ الصيني والروسي يستدعي عدم الانشغال بحروب جانبية حيث إن مواجهة هذا النفوذ يحتل الأولوية بالنسبة لأمريكا والدول الغربية بما يعني أن من دوافع وأسباب الانسحاب إعادة التموضع على ساحة المواجهة العالمية وتوحيد الجهود في هذا الاتجاه بدلاً من الانشغال بهوامش المواجهة الثانوية والتركيز على المهم على حساب الأهم، مع إدراك الإدارة الأمريكية أن القضاء على حركة طالبان عسكريًا ومحوها من خريطة أفغانستان يعتبر في حكم المستحيل.