د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
(1)
** حدّثته نفسُه في فراغ صيف ومحدودية ارتحال أن يستعيد ملامح من حياته إثرَ عقودٍ تبدلت فيها أحوالٌ وأفعالٌ حتى لم تعد ملامحُنا تشبهنا، ولا نحن نشبهُ إرثَنا، وساءلَ نفسَه: ماذا لو نسينا من نكون، وجهلت الأجيال من نحن، ولم ندّكرْ بيوتَ الطين، وقُبابَ الطرقات، والماءَ الذي تحمله «الروّايات»، والسُّرج التي تعلقُ ليلًا، والجيرةَ التي تُشعُ نبلًا، ومشراقَ الضّحى، وسهرَ المساء، وليلَ القصيد، وإمتاعَ الأساطيرَ، وإيقاعَ الطبول: «قلبي اللي سِمرْ من حسّْ طارٍ سمرْ».
** قاده الفراغُ إلى افتراضات؛ فبسمل وحمدل، وكتب في أعلى السطر العنوانَ المتخيّل: (ونفسٍ وما سوّاها)، وأتبع هذا بهذي:
« (كان الأطفالُ يتهيبُون المرور عبر المضيق الواصل بين حارات «المجلس وسوق القصر والجوز والخريزة» وبوابة العبور إلى حارة «مُريبدة»، أو المنفذ الموصل إلى نفود «عنيزة» وبعض مزارعها الخارجية المسمى: «باب العقدة»؛ فقد كان مليئًا بالمتقاعدين والعاطلين والراغبين في إزجاء أوقاتهم برفقة أهالي الحارات المجاورة للحديث حول كلِّ شيءٍ ولا شيء، وعلى المارّ بجوارهم إلقاءُ التحية، والأمر له من بعد إن شاء المكثَ أو مواصلة الدرب، أما الأطفال فلا خيار أمامهم سوى العبور السريع دون سلام أو كلام، وربما خشي بعضهم من سؤالٍ فضولي حول من يكون؟ (من أنت ولده؟)، وقد يندُّ تعليقٌ ساخرٌ أو جارحٌ بجانب دعاءٍ أو ثناء، وتختلط الأصوات في ذهن طفلٍ يتمنى لو أغمض عينيه وتجاوز المضيق باختفاء؛ فلا الاحتفاءُ سيُطربُه ولا المزاحُ سيُشغلُه، والأهمُّ الانفكاكُ من أيِّ وقفة استدعاءٍ أو استفهام أو ملاعبة أو مداعبة).
** كتب صفحاتٍ بعدها ثم توقف مدركًا أنه أمام مشروعٍ لا يحفزه وقتٌ ولا تكفيه رغبة، وأيقن أن من يفكر بكتابة مذكراته أو ذكرياته فإنما هي إشارةٌ أولى إلى رحلةِ الغروب؛ فلم يبق أمامه ما يستحقُ الانتظار في الفضلةِ المتبقيةِ من النهار.
(2)
** تتفاوت الآراءُ حول هذه السير، ومن يحقُّ له أن يوثقَها وما يستحقُّ القراءةَ منها، فالباب مُندلقٌ والحكاياتُ منطلقة، ولا ضير؛ فليست هذه بأقلَّ قيمةً من كتب الخواطر والروايات التي ضجّت بأرففِها المكتبات حتى لم يبقَ من لم يؤلِّفْ مثلما لم يتبقَ من لم يُستهدفْ.
** الكتابة كما القراءة اختيارٌ؛ فلا إجبارَ لمن يكتب ولا ضغوط على من يقرأ، وكلما زادت مخرجاتُ المطابع ازددنا قدرةً على الفرز، ومنذ زمن بعيد و»أيام طه حسين» شامخةٌ بصفتها واحدةً من أجمل كتب السير، في ظل وجود عشراتٍ قبلها وآلافٍ بعدها؛ فهل يُحجمُ من يظنُّ أن سيرته لن تحظى ببعض عنايةٍ يأملُها؟
** النشرُ لا تحكمه قيودُ الانتشار، والسيرُ الخاصة تصبح عامةً إذا تخلتْ عن الأنا، ولم تقارنْ زمنَها بزمنِ غيرِها فتجاوزت مبالغاتِ الأنا كما ادّعاءات البلوغ.
** نحيا لنُحْيِي.