عطية محمد عطية عقيلان
يطلق في تراثنا العربي على العشاق ويوصفون بالجنون، فيقال عن قيس ابن الملوح مجنون ليلي، قالوا له: جننت بمن تهوى، فقال: ما لذة العيش إلا للمجانين، بل إنه يروى حكم وقصص عن زهدهم في الحياة وبصدق من دون نفاق أو تجميل، مع قول رأي سديد أحياناً، فالمثل الشعبي يقول: «يجي من الأبله إصابات»، ويروى عنهم أحياناً التحلي بالحكمة أو على أقل تقدير قولهم لها، الذي يجسده المثل الشهير «خذ الحكمة من أفواه المجانين» عن قصة لجوء أخوه إلى أحد المجانين ليجد حلاً لهم في توزيع الميراث بينهم بعد أن عجز القاضي عن تسوية خلافهم، ليجد الحل للأخ الأكبر والذي يريد أخوته توزيع الميراث قبل دفن أبيهم وليذهب مثلاً في الحكم بحكمة بعد ذلك، ومن صادف في حياته أحد هؤلاء «المجانين» يرى البساطة والضحكة والعفوية في حديثه وإحساسه العالي وردات فعله وإن كانت المزح باليدين معهم نتائجه وخيمة، وقد قال المنفلوطي «ما لذ العيش إلا للمجانين»، بل من اللحظات الجميلة التي نعيشها بين زملائنا وأصدقائنا هي اللحظات البسيطة والتي تخلوا من التصنع والتكلف والمصلحة الصرفة وكما قال شكسبير «لا تحلوا الحياة دون أصدقاء يشاركونك الجنون بعض الأحيان»، بعيدًا عن تحول وتشويه الجنون في الدراما العربية إلى من يقومون بالتكسير والإيذاء الجسدي وعدم النظافة والترتيب وعدم القدرة على التعبير واعوجاج اللسان، ولكن التراث العربي القديم والغربي مليء بقصص المجانين التي يتصفون بالحكمة والرأي الصائب مثل بهلول الصيرفي الكوفي الذي عاش في عصر هارون الرشيد الذي عرف بإلقاء المواعظ بأسلوب بسيط وسهل وطريف ويجذب من يستمع له، ومن أجمل الروايات للدكتور غازي القصيبي (العصفورية) والتي تدور أحداثها داخل مستشفى للأمراض النفسية وتظهر الجنون الممزوج بالحكمة لنزلائه بأسلوب يربط الخيال بالواقع بنظرة فيها الكثير من الجنون، وتوصل لك رسالة منها بأن الجنون يفيد أحيانًا لتشخيص الواقع ونقده دون خوف أو سقف لهذا النقد، والتنصل من عواقبه القانونية لأنك مجنون ومرفوع عنك القلم، وهي رواية ممتعة في تحليل شخصيات المجانين والتعرف على طريقة طرحهم ونقاشهم، ولتكتشف في نهاية الرواية بأنه فعلاً كما يقال الجنون فنون والفنون جنون.
لذا يتوجب علينا عند اختيار طريق الجنون للتسلية والمزاح وللتعبير عن واقعة أو قصة في حياتك أو لجذب الناس وإضحاكهم، أن نسلك جنون الحكمة وإشاعة البساطة والسعادة على من حولنا، وليس الجنون بحمق واستخدام الأيدي والملئ بالألفظ الجارحة والتعبيرات السخيفة والتعليقات السمجة على الزملاء ومعايرتهم بشكل فض والتي تخجل أن يراها أو يسمعها أولادك في المستقبل ويتداولها أحفادك، وكما يقول مصطفى محمود «مجانين يا عزيزي هؤلاء الناس الذين يتخذون المال هدفاً والشهرة غاية والطمع خلقاً والغرور مركب»، وليس مطلوب أن يكون الناس طيلة حياتهم بشخصية رصينة وتعقل في طرحهم، فالإنسان يحتاج أن يلهو ويمزح ويلاطف وبنكت ويخرج عن طبيعته لتخفيف أعباء الحياة، خاصة مع والديه وأصدقائه وزملائه وأبنائه وزوجته، ولكن أضعف الأيمان أن يكون جنونًا بلا حماقة وسماجة وتهكم على العبادات والقيم والشخصيات والعيوب الخلقية والشكلية، من أجل إضحاك الناس وجذبهم للمتابعة، ولكن يمكن كسبهم بالتهريج والإضحاك دون تناول شخصيات معينة بل أبني على المجهول وكما يقال «لا غيبة لمجهول»، يقول المغني التون جون «الشهرة تجذب المجانين»، ونختم بأسوأ أنواع المجانين والتي قالها الشاعر الروماني جوفينال «قمة الجنون والحماقة أن تعيش فقيراً لتموت غنياً».