د.شريف بن محمد الأتربي
تظل النفس هي الهاجس الأكبر للعلماء وخاصة التربويين، وعلماء النفس، لما تمثله من مدخل لدراسة السلوك الفردي، وانعكاسه على المجتمع، وقد ذُكرت النفس في القرآن الكريم، وفي الحديث النبوي الشريف، وكذلك في كثير من الدراسات والأبحاث العلمية.
والنفس في اللغة بمعنى الروح، وهي حقيقة الشيء وجملته، وهي الدم، وهي ما يكون به التمييز، فالعرب جعلت النفس التي يكون بها التمييز نفسين؛ أحدهما قد تأمر بالشيء والأخرى تنهَى عنه.
والنفس في الاصطلاح -حسبما قال صاحب كتاب التعريفات- هي: «الجوهر البخاريُّ اللطيف، الحامل لقوة الحياة والحس والحركة الإرادية، وسماها الحكيم: الروح الحيوانية، فهو جوهرٌ مشرق للبدن، فعند الموت ينقطع ضوؤه عن ظاهر البدن وباطنه، وأما في وقت النوم، فينقطع عن ظاهر البدن دون باطنه».
وقد اهتم الإسلام بنفس الإنسان أيما اهتمام، فاعتبرها ملكاً لخالقها، وليست ملكاً لصاحبها يفعل بها ما يشاء، فعظّم من شأنها وقيمتها، وجعل على صاحب النفس حقوق يجب عليه أن يرعاها، وألا يفرط فيها، كأن يسعى جاهدًا لأن ينمي جوانب الخير فيها، وأن يضيق مساحة الشر في أحوالها.
ولفظ النفس ورد في القرآن مئتين وخمسًا وتسعين مرة، باختلاف تصاريفه. وهو من الألفاظ التي تحمل عدة معان، فليست من المتشابهات، وإنما من الألفاظ المشتركة.
أما مصطلح «السيكومتري» أو «القياس النفسي»، فهو يتكون من مقطعين هما «سيكو» Psycho ويعني نفسي و «مترو» Metro ويعني باللغة الإغريقية قياس Measure.
وقد عرف «جابلن» القياس النفسي بأنه أحد فروع علم النفس الذي يتعامل مع الاختبارات النفسية وتطوير الإجراءات الإحصائية وتطبيقها في القياس. وعرفه «باس» بأنه أحد فروع علم النفس الذي يهتم بتطبيق المبادئ الإحصائية على البيانات النفسية وتطويرها»، وهو عملية تعيين أرقام على خصائص الشيء المراد قياسه.
كما يعرف القياس بأنه (التعبير الكمي عن الظواهر المادية وغير المادية ويتضمن أيضاً المقارنة وذلك بمعيار).
وللقياس النفسي ثلاثة مجالات هي:
مجال التنظيم المعرفي: وهي مقاييس القدرات والاستعدادات، وهذه تنقسم إلى مقاييس الاستعداد ومقاييس التحصيل ومقاييس الذكاء ومقاييس القدرات. ويقصد بالاستعداد ما يمكن للمرء أن يتعلمه، أما القدرة أو التحصيل فيقصد بها ما تعلمه الفرد فعلاً. فإذا كان الغرض هو التنبؤ بما يمكن للفرد أن يتعلمه في المستقبل يكون هدفنا هو قياس الاستعداد، أما إذا كان الغرض هو قياس التحصيل فإن اهتمامنا يكون بما استطاع الفرد تعلمه.
مجال التنظيم الانفعالي: وهي مقاييس الشخصية، وغالباً ما تهتم هذه المقاييس بمقياس السلوك الظاهر، أي أن اهتمامنا موجه إلى ما يقوم به الفرد، فالاختبار يهتم دائماً بما يفعله الشخص، ونوع الإجابات التي يختارها، وماذا يقول هكذا فأفعاله في مادة الدراسة الأساسية، والهدف من ذلك معرفة أنواع السلوك التي يحتمل أن يقوم بها الفرد في موقف معين، والتنبؤ بما يمكن له أن يفعله في المستقبل.
مجال التنظيم الحركي: وتهتم بقياس المهارات الحركية لدى الأفراد، ومن هذه المقاييس ما يرتبط بالحركات الصادرة عن العضلات الدقيقة مثل مهارات الكتابة، وتشغيل الآلات والأجهزة، وعزف الآلات الموسيقية، ومنها ما يرتبط بالحركات الصادرة عن العضلات الكبيرة مثل الجري والقفز وإلقاء الأشياء.
وإذا كنا نسمح للغير أن يقيمنا طبقاً للمقاييس التي وضعها أو يستخدمها، فالأولى بنا أن نقيس أنفسنا بأنفسنا، وأن يكون هذا القياس ذو شفافية ومصداقية عالية، فالله سبحانه وتعالى أرشدنا إلى أهمية النفس وتأثيرها على مستقبل الإنسان ما بين الجنة والنار، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا* قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (7-10) سورة الشمس.
وسيكومترية الذات تقوم على المحاسبة اليومية، بل اللحظية لكل عمل نقوم به، وقياسه بمعيار التقوى، أو الفجور، وقد أقسم الله سبحانه وتعالى بالنفس اللوامة؛ والتي على اختلاف تفسير العلماء لها إلا أن أقرب هذه التفاسير لهذا المقال ما يتعلق بلوم الإنسان لنفسه على أقترف من أثم، فالنفس اللوامة، وهي التي أقسم بها سبحانه في قوله: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} فاختلف فيها، فقالت طائفة: هي التي لا تثبت على حال واحدة؛ أخذوا اللفظة من التلوم، وهو التردد، فهي كثيرة التقلب والتلون، وهي من أعظم آيات الله، فإنها مخلوق من مخلوقاته تتقلب، وتتلون في الساعة الواحدة -فضلاً عن اليوم والشهر والعام والعمر- ألوانًا عديدة؛ فتذكر وتغفل، وتقبل وتعرض، وتلطف وتكثف، وتنيب وتجفو، وتحب وتبغض، وتفرح وتحزن، وترضى وتغضب، وتطيع وتعصي، وتتقي وتفجر، إلى أضعاف أضعاف ذلك من حالاتها وتلونها، فهي تتلون كل وقت ألوانًا كثيرة، فهذا قولٌ. وقالت طائفة: اللفظة مأخوذة من اللوم. قال الحسن البصري: إن المؤمن لا تراه إلا يلوم نفسه دائمًا، يقول: ما أردت بهذا؟ لم فعلت هذا؟ كان غير هذا أولى، أو نحو هذا من الكلام. وقال غيره: هي نفس المؤمن توقعه في الذنب، ثم تلومه عليه، فهذا اللوم من الإيمان، بخلاف الشقي، فإنه لا يلوم نفسه على ذنب، بل يلومها وتلومه على فواته. وقالت طائفة: بل هذا اللوم للنوعين، فإن كل واحد يلوم نفسه، بَرًّا كان أو فاجرًا، فالسعيد يلومها على ارتكاب معصية الله وترك طاعته، والشقي لا يلومها إلا على فوات حظها وهواها. وقالت فرقة أخرى: هذا اللوم يوم القيامة، فإن كل واحد يلوم نفسه، إن كان مسيئًا على إساءته، وإن كان محسنًا على تقصيره. وهذه الأقوال كلها حق ولا تنافي بينها، فإن النفس موصوفة بهذا كله، وباعتباره سميت لوامة.
فيا ليتنا نحاسب أنفسنا قبل أن يحاسبنا أحد، وقبل أن نقف بين يدي الله سبحانه وتعالى لا نملك من أمرنا شيئاً وقد فرطنا في كل الفرص التي أعطانا هي الله تعالى لننجو من العذاب.