رمضان جريدي العنزي
عمى البصيرة أشد ضرراً وفتكاً بالإنسان من عمى البصر. إن عمى البصيرة يأخذ بصاحبه نحو المنحدر والقاع، ويجعله يسير بلا وعي ولا حس ولا إدراك، ويجعله من الغافلين، فيرى الباطل حقاً، ويرى الحق باطلاً، والضار نافعاً، والنافع ضاراً، لا نور في قلبه، ولا إشراقة في روحه، الأمور عنده مختلطة، والأشياء متخبطة، والألوان رمادية، كـ{الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}،
(سورة البقرة آية 275)، وكالأعمى الذي لا قائد له، يتخذ العدو صديقاً، والصديق عدواً، ولا يعرف منطقة الرماد. إن عمى البصيرة بلاء عظيم، أما عمى الأبصار والعيون فهو مرض عارض قد يشفى منه الإنسان ويتعافى، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (سورة الحج آية 46). إن صاحب البصيرة الثاقبة لا تختلط عليه الأمور لا تتعقد ولا تتشابه، لكن الذي لا بصيرة له يصيبه التيه والضياع ويتخبط في السير، ويقع في التشخيص الخاطئ، ولا يميز بين الخط المستقيم والخط المنحرف. إن الذي يجمع بين البصر الحاد والبصيرة الثاقبة، أهدى من المنكب على وجهه الذي لا ينتفع ببصره في المشي، ولا ببصيرته في الرأي والحكمة والمشورة. إن السير على الطريق لا يحتاج إلى عينين مبصرتين فقط، ولكن لا بد من تفعيل البصيرة. إن أعمى البصيرة يقوده عماه نحو مستنقعات العصيان والخذلان، قلبه غليظ، وروحه عليلة، وفهمه مقلوب، ويحسب نفسه عن الآخرين مميزًا. ما عنده فطنة، ولا حجة، ونظره غير نافذ لخفايا الأشياء، والأمور عنده مقلوبة ومختلطة. إن مطموس البصيرة جاهل، أظلم قلبه، ونامت روحه، وانعكست فطرته، عاجز عن الفهم والإدراك، ما عنده مواقف، ولا ثوابت، ولا مرئيات، يحسب كل صيحة عليه، غير متوازن، لا يؤثّر ولا يتأثّر، معرض دائمًا عن الحق والصدق، وجهله مركب، تنظيره كسيح، ومنطقه أعوج، سطحي يهتم بمظاهر الأمور دون جوهرها، ويبني الأحكام والآراء بشكل قاصر بعيدًا عن العمق والبُعد والتروي، متذبذب غير راكد، وله شطحات بائنة، ما عنده براهين ساطعة، ولا أدلة قاطعة، وحجته واهنة. متخبط في ظلام الهوى، ومنغمس في بحر المنى، لا يميز بين حقائق الأشياء ولا يدركها، لا كنهها ولا جوهرها. يحب الاستغلال والاستحواذ إرضاء لذاته المنتفخة، ولا يجب نفسه عن السخافات والدناءات. وليس بحصيف، مساراته بها الكثير من الانعطافات والالتواءات، ويقع دائمًا في الحفر والمطبات، فاللَّهم أنر بصيرة مَن أظلمت بصيرته، واهده للحق والصواب، وافتح بالنور عقله وقلبه.