اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
تحتل أفغانستان موقعاً استراتيجياً في قلب آسيا الوسطى بين غرب آسيا وشرقها وشبه القارة الهندية، مما جعلها منطقة استراتيجية بالغة الأهمية بالنسبة للقوى العظمى كالولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا، بوصف هذا البلد يمثل ميداناً للحسابات الإقليمية والدولية وتصادم الاستراتيجيات نتيجة لتقاطع المصالح وتعارضها، خاصة في ظل الصراع المحتدم بين أمريكا والغرب من جهة، والصين وروسيا من جهة ثانية، وكذلك الصراع بين الهند وباكستان من جهة ثالثة، وأطماع وتطلعات إيران وتركيا من جهة رابعة.
وطبيعة موقع أفغانستان وتعدد أعراق شعبها وهويتها الدينية واحتضانها للتطرف وجوارها المتعجرف، كل هذه العوامل بقدر ما جلبت لها الكثير من المتاعب والدمار، بقدر ما كانت سبباً في تحقيق بعض المكاسب والانتصار، فبالرغم مما عاناه الأفغان من ويلات الحروب، وما نجم عنها من المصائب والخطوب، إلا أنهم في النهاية يخرجون منتصرين، جاعلين من أرضهم مسرحاً لهزائم الغزاة ومقبرة للطغاة، كما حصل في الزمن الماضي للإمبراطورية البريطانية والاتحاد السوفيتي، ويحصل الآن للولايات المتحدة الأمريكية ومعها دول حلف شمال الأطلسي.
والشعب الأفغاني منذ عقود زمنية وهو بين مطرقة الغزاة وسندان التنظيمات المتطرفة، ومهما اختلفت أهداف الغزاة ودعاة التطرف أو اتفقت فإن الجرائم التي يقترفونها والممارسات التي يمارسونها ذات انعكاسات خطيرة تمس كرامة المواطن وتنال من قدسية الوطن نتيجة لصلف الغازي المحتل وعنف المتطرف الوافد، مضافاً إلى ذلك خيانة الخائن وعمالة العميل وفساد الفاسد من المحسوبين على الوطن.
وحركة طالبان رغم أنها توصم بالعنف والتطرف ولها سجل أسود في هذا المجال إلا أنها أثبتت فاعليتها في مقاومة الاحتلال منذ البداية حتى وصلت بها الأمور إلى ما وصلت إليه، حيث برهنت على قوة إرادتها على محاربة الغزاة والقوة العسكرية والأمنية التابعة للحكومة العميلة التي يمثل وجودها انتهاكاً للهوية الأفغانية، وتحدياً للكرامة الوطنية بالنسبة للشعب الأفغاني صاحب التاريخ الطويل والموروث الأصيل في مقاومة الغزاة والدفاع عن الدين والوطن.
والولايات المتحدة الأمريكية تنسحب اليوم من البلد الذي احتلته قبل عشرين سنة انتقاماً من تنظيم القاعدة الذي صنعته لحاجة في نفس يعقوب حيث وجدت الوقت مناسباً لكي تتهم صنيعتها بأنها وراء انفجارات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م، والهدف المعلن من هذه الحرب هو القضاء على الإرهاب المصنوع، بينما الهدف الحقيقي من الحرب والاحتلال هو إعطاء المبرر لشن حرب استباقية وتنفيذ مخطط استعماري يهدف إلى ما هو أبعد من ذلك متخذاً من نظرية الفوضى الخلاقة ومشروع الشرق الأوسط الكبير وأحادية القطب علامات إرشادية ومحطات مرجعية على الطريق المرسوم وفي الاتجاه المعلوم.
وبالطبع فإن أحداث الحادي عشر من سبتمبر تعد نقطة تحول فاصلة على درجة عالية من الأهمية بالنسبة للسياسة الأمريكية في العالم، إذ عملت الإدارة الأمريكية وقتها على استغلال الموقف وتوظيفه لتكريس الهيمنة الأمريكية في العالم مع إعادة صياغة النظام العالمي بما يخدم مصالحها، معطية لنفسها الحق في إعلان الحرب الوقائية في أي مكان من العالم متى ما أرادت ذلك، دون أن تحسب حساباً لسيادة الدول والعلاقات الدولية المتعارف عليها والقوانين المرعية المعمول بها، جاعلة من النظام الدولي هرماً تتربع على قمته عبر ما يعرف بالقطب الواحد والعالم الجديد.
والواقع أنه تم تفعيل مشروع الشرق الأوسط الكبير بالحرب على أفغانستان والعراق توطئة لما بعدها، كما حصل لاحقاً فيما يعرف بالربيع العربي، ويعد هذا الغزو مرحلة مفصلية من مراحل نظرية الفوضى الخلاقة التي يرى فيها الأمريكان ما يخدم مصالحهم على المدى البعيد عن طريق إثارة القلاقل والفتن في أكثر من مكان ليكون في تدمير الغير مجالاً للتغيير على نحو يخدم السياسة الأمريكية والعولمة الرأسمالية.
والنوايا المكشوفة والأهداف المعلنة للغزو تعد نتيجة طبيعية للنوايا المعروفة والأهداف المبطنة التي صُنع الإرهاب من أجل التبرير للقيام بها، حيث ورد على ألسنة بعض السياسيين المدنيين والقادة العسكريين في أمريكا ومعسكرها الغربي أنهم لم يذهبوا إلى أفغانستان للانتقام من تنظيم القاعدة، وإنما ذهبوا لأمر أخطر وعمل ما هو أدهى وأمر ضد الإسلام في أحد معاقله، إذ اعترف بذلك الرئيس الأمريكي آنذاك عندما وصف الحرب في أفغانستان بأنها حرب صليبية، وقال ويسلي كلارك قائد قوات حلف شمال الأطلسي في آسيا سابقاً: من يظن أننا خرجنا إلى أفغانستان انتقاماً لأحداث 11 أيلول فليصحح خطأه، بل خرجنا لقضية أخطر هي الإسلام، لا نريد أن يبقى الإسلام مشروعاً حراً يقرر فيه المسلمون ما هو الإسلام، بل نحن نقرر لهم ما هو الإسلام.