د. فهد بن أحمد النغيمش
منذ أن كتب المسرحي الإسباني «أليخاندرو كاسونا» مسرحيته «الأشجار تموت واقفة» والتي ذاعت شهرتها، حتى أصبحت - عنواناً ومعنى - اقتباسياً لكثير من الأعمال الأدبية.
أشجار «أليخاندرو كاسونا» التي تموت واقفة، لم تكن سوى صورة رمزية لعطاء استمر سنوات صامدة أمام الرياح العاتية حتى ماتت ولديها من العطاء والنماء الكثير والكثير، حيث تتساقط الأوراق وتجف الثمار وتصبح جرداء صفراء لا ظل ولا ظليل، لكنها تظل واقفة لتعلن للملأ أن داخلها قلباً ينبض بالعطاء وإن بدت جرداء أو صلعاء، وهكذا هم بعض البشر الذين يثبتون أمام عواصف الحياة، حتى إذا انهزموا، ماتوا وقوفاً على أقدامهم.
كم هم أولئك الذين غادروا مواقعهم الوظيفية رغمًا عن أنوفهم بسبب وصولهم للسن القانونية واللوائح النظامية التي ترغمهم على ترك أمكنتهم ومغادرتها وهم ما زالوا في قمة العطاء والخبرة التي كان من الممكن الاستفادة منها ورعايتها بدلاً من أن تؤود وهي في مهدها أو أن تموت وهي واقفة على قدميها!!
تستمتع كمشاهد أو مستفيد يوماً ما بعمل رائع ودؤوب ومستوى من الإنتاجية يشهد بها البعيد قبل القريب والنآئي قبل العائد يقوده قائد يحمل من النضج أكمله ومن الخبرة شأنها ثم تفاجأ بانقطاع الينبوع وجفافه، ولك أن تتساءل فإذا بربان السفينة وقائدها قد غادرها فجأة ودون مقدمات وتأخذك الدهشة أن السن القانوني هو من هوى به وهو في قمة عطائه وهو من أسقطه أرضًا وهو في كامل عنفوانه!
في أكثر دول العالم المتقدمة يكون التقاعد أشبه بالاختيار وبمعايير تحدد مدى الاستمرار من عدمه يحددها العطاء وسلامة الجسم صحيًا وعقليًا، وليس عمر الإنسان الافتراضي، فعمر الإنسان مجرد رقم لا يحسب بالسنوات بل يقدر بالعطاء والاستمرار!
عالم الفيزياء الدكتور John B. Goodenough «جون غوديناف» والحاصل على جائزة نوبل للكيمياء في عام 2019م سمع أن جامعة أكسفورد سوف تحيله إلى التقاعد بعد عامين حسب أنظمتها، إذ بلغ سن الـ65 عاماً فلم ييأس أو يسلم للواقع وهو يعلم أن لديه من العطاء الشيء الكثير، لذا قرر أن ينتقل إلى جامعة تكساس ليعمل فيها ثلاثة وثلاثين عاماً أخرى! ثم يظفر بجائزة نوبل للكيمياء وهو في سن 99 عاماً!
وبعدها ظهر في مؤتمر صحفي ينتقد جامعة أكسفورد البريطانية، لإجباره على التقاعد في سن 65 عاماً، في خطوة كانت من الممكن أن تبعده تماماً عن الحقل العلمي، وقال «من الغباء جعل الناس يتقاعدون في عمر معين، والدليل أنني قضيت ثلاثاً وثلاثين سنة جيدة منذ أن أجبرت على التقاعد في إنجلترا، وانتقلت إلى جامعة تكساس التي لا تلتزم بسن محددة للتقاعد» ليواصل عطاءه وأبحاثه وينثر خبراته التي نتج عنها تتويجه بأهم جائزة عالمية (جائزة نوبل).
نحن اليوم لدينا العديد من الرجالات والمبدعين وذوي الخبرات ترجلوا عن هرم العمل وهم في قمة عطائهم، لأنه وبكل بساطة بلغ السن النظامية للتقاعد! من دون أن ندرك أننا بذلك نفقد كميات من التراكم المعرفي والخبراتي ورصيدًا واسعًا من التجارب. نعم، جميل أن الشخص يستريح ويفسح المجال للدماء الشابة أن تمسك الزمام وتبحر في الميدان، لكن هناك الكثير من المهن والتخصصات وبالذات العلمية التي ما إن تصل إلى قمة عطائك ومجد خبراتك حتى تتفاجأ أنك قاب قوسين أو أدنى من خط النهاية! وهذا ما لم يقبله «غوديناف»، الذي استمر وأبدع في بيئة تقبله وتشجعه، فكم لدينا من قامة لديها شجاعته وأمله في مواصلة العطاء؟
المتقاعد صاحب الفكر والعطاء ومن يؤمن بأن لديه العديد والعديد من العطاءات والخبرات التي تمكنه من تقديم الكثير من الخدمة لبلده ومجتمعه يجب أن تُفتح له الدروب وأن توفر له الكثير من السبل والتساهيل التي تجعل منه معينًا لا ينضب ونهرًا من العطاء لا ييبس!
جدير بأن تراجع اللوائح والأنظمة ويستفاد من الأنظمة المشرعنة لآلية التقاعد في الدول المتقدمة والتي تكفل حفظ تلكم الثروات العلمية والخبراتية وربط سن التقاعد بكمية العطاء الذي قدمه في السابق وما يمكن أن يقدمه في المستقبل.