د.فوزية أبو خالد
بينما كانت المملكة العربية السعودية إضافة للمجتمع الأمريكي ومن مستهم مباشرة كارثة أحداث الحادي عشر من سبتمبر الأشد إصراراً على الإدارة الأمريكية في تعاقبها لإخراج تقرير لجنة التحقيقات الخاصة بأحداث سبتمبر 2001 من أدراج الأمن الأمريكي السرية وإطلاقه في الضوء ليكون متاحا للرأي العام، فلا بد اليوم أن الكثيرين من محبي العدل والسلام يشاركونهم الإحساس بالارتياح لخروج هذا التقرير المعني بنتائج التحقيقات الأمريكية النهائية في أحداث 11 سبتمبر 2001 إلى العلن أخيراً وقد أُبقي سريا لما يقترب من عشرين عاماً بعد صدوره حسب التقديرات الأمنية الأمريكية عام 2004.
فبميزان الضمير العام وضع التقرير حداً لمضي أُهالي ضحايا ضربة سبتمبر والمجتمع الأمريكي أجمع في استجراح آلامهم على ذلك الفقد الموجع. وعلى أن جراح مثل هذا المصابات لا تبرأ إلا أن الشفاء من الشكوك التي تزيد اشتعالها قد تساعد على استقرارها بنبل في الوجدان الخاص والعام وتعلم تجربتها لمستقبل الأيام.
ولهذا كان من المهم جداً ظهور هذا التقرير من الظلام إلى النور للمعرفة والتحقق من أنه ليس ثمة ما أخفته أو ما تخفيه حكومتهم عنهم بشأن نتائج التحقيق وكذلك لتأكيد التحقق من خطأ محاولة اتهام المملكة العربية السعودية، بما اتضح معه وضوحاً جلياً أنه لم يكن للسعودية لا ناقة ولا جمل ولا يد في أحداث 11 سبتمبر الإرهابية، بل إن السعودية هي نفسها طالما اكتوت قبل أحداث سبتمبر بنار العمليات الإرهابية على أرضها وقاومتها بالتصدي الاستخباراتي والأمني والمالي لكل أشكال الإرهاب في الداخل والخارج منذ التسعينيات الميلادية أي قبل وقوع أحداث سبتمبر بقرابة عقد من الزمان. وعدا عن ذلك فإنها أي السعودية لم تأل جهداً من قبل ومن بعد في مشاركة خبرتها في مواجهة الإرهاب مع المجتمع الدولي ومع أمريكا بالذات كما جاء ذلك بشهادة من رئيس الاستخبارات السعودي السابق الأمير تركي الفيصل في لقائه مؤخراً مع سي إن بي سي
ولو قيس التقرير الأمريكي المعني هنا أيضا بميزان السلام الدولي فإننا سنجد أن التقرير الأمني الذي أعلن عنه في الذكرى التأبينية العشرين لضحايا الحدث المروع لم يستطع إلا أن يعترف بتنزه المملكة العربية السعودية عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر مع التأكيد على عدم وجود أي علاقة لها بذلك الحادث الإرهابي لا بشكل مباشر ولا بشكل غير مباشر. وما يعزز هذا الاعتراف في حق المملكة أنه جاء بعد تمحيص وبناء على تلك التحقيقات العميقة الدقيقة الطويلة التي قامت بها لجنة التحقيق الأمريكي الأمني وهي واحدة من أهم لجان التحقيقات في التاريخ الأمريكي المعاصر، المشكلة عام 2002 خصيصا للتحقيق في أحداث سبتمبر برئاسة توماس كين مدير جامعة ديو بولاية نيوجيرسي وقتها والحاكم السابق للولاية. وقد يكون من المهم الاطلاع تحديدا على النص الذي جاء في التقرير بهذا الشأن وهي شهادة نصية أدلى بها رئيس لجنة تحقيقات الحادي عشر من سبتمبر السيد توماس كين، واقتبس في هذا السياق المقتطف المقصود هنا عن التقرير الذي كتبه ديفيد سميث من واشنطن ونشر بصحيفة الجارديان البريطانية بتاريخ 10 - 9 وقام بحس وطني واع وسريع بالمبادرة إلى ترجمته في نفس اليوم د. حمزة المزيني. وقد جاء فيه نصيا.. لم يجد تقرير لجنة التحقيق في أحداث سبتمبر أي دليل على أن الحكومة السعودية بصفتها دولة ولا أي من مسؤوليها قد مولوا القاعدة. وفي هذا قال كين حرفيا:
«إن الوثائق كلها التي قرأتها ويشمل ذلك الوثائق التي أراد أقرباء الضحايا كشف السرية عنها (كما تحقق لهم) لم تجد أي شيء يمكن أن يشير إلى أي صلة في التخطيط لأي مسؤول حكومي سعودي».*
والواقع أنني تعمدت كتابة هذا المقال وإن بعد أيام من صدور التقرير المشار إليه ليس فقط للتعبير عن الفخر الشخصي والوطني بتأكد المجتمع الأمريكي والعالم أجمع من نقاء يد المملكة العربية السعودية من دم ضحايا سبتمبر 2001 في بعده الإنساني وفي بعده السياسي، (فهذا أمر كنت ككل مواطنة ومواطن سعودي على يقين به استناداً على التاريخ السلمي الطويل للمملكة العربية السعودية في علاقاتها الدولية عامة وفي علاقتها بحلفائها التاريخيين ومنها الولايات الأمريكية خاصة، منذ مطلع التاريخ السعودي بل وقبل اتفاق كوينسي في اللقاء الذي جمع الملك عبدالعزيز مؤسس المملكة العربية ككيان مستقل موحد على أرض الجزيرة العربية بالرئيس الأمريكي آنذاك فرانكلين روزفلت فبراير 1945م)
إنما كتبتُ المقال أيضا لتأمل تلك المسلمة البسيطة في العلوم السياسية والعلاقات الدولية وهي أن التحالفات التي لا تكون أثمانها متبادلة لا تستطيع تحقيق العدل في ميزانها. وهذا ليس فقط درسنا التاريخي في العلاقة مع أمريكا إبان الحرب الباردة وما بعدها في العقدين الساخنين لمحاربة الإرهاب ولكنه الدرس السياسي المستمر ما استمرت في الوجود نزعة الاستحواذ والهيمنة من ناحية وضرورة مقاومتها من ناحية أخرى. ولا أظن الرد السعودي على محاولة أمريكا اليوم لكشف الغطاء الدفاعي عن سقف المنطقة العربية ومنطقة الخليج العربي تحديدا والمملكة العربية السعودية خصوصا إلا تجربة ميدانية ثمينة لتتعلم الإدارة الأمريكية في هذه اللحظة بأن ليس كل طائر قابل للشواء، وألا تتهور في تكرار خطأها القديم في فيتنام وخطأها الحاضر في أفغانستان. فليس لطرف واحد في العلاقات الدولية وإن طال الوقت أن يدفع وحده أثمان المراهنات الخاطئة والتحالفات المريبة التي تجري أمامه على حسابه كما يجري الأمر اليوم بين أمريكا وإيران على حساب المنطقة العربية والخليج والسعودية..
و(هذا التحالف المريب بين أمريكا وإيران هو ما سأعود له في مقال الأسبوع القادم بسؤال بسيط «هل حقا انتهت إيران جيت؟»)
وأخيراً فإنه كما أن الاعتراف بالحق فضيلة في سلم القيم عند كل الشعوب والحضارات وبين الدول فإن الاعتذار عن الخطأ فضيلة لا تقل حيوية، والواقع أن الاعتذار الأمريكي لا يجب أن يكون فقط للأذى المعنوي والسياسي الذي تسببت به الشبهات الخاطئة التي ألقت بظلالها حول المملكة العربية السعودية بعد أحداث سبتمبر 2001م، بل يجب أن يكون الاعتذار أيضا عن تلك الغمامة التي ألقت بثقلها على السعودية دولة ومجتمعا نتيجة التحالف الذي لم يقدر حق قدره بين السعودية وأمريكا على أهميته القصوى لأمريكا في تلك اللحظة التاريخية الباهظة التي كانت المواجهة فيها بين روسيا وأمريكا على أرض أفغانستان.. والسلام ختاااام.