مكة قبلة المسلمين، ومقصد الحجاج والمعتمرين، ومأوى الساعين والطائفين، هي ملهم الهمم، وموقد العزائم والإرادات، مركز أدبي، ومنجز ثقافي، ومبدع حضاري، طالما فطرت قرائح الشعراء فأبدعوا، ووجدانيات الأدباء ففتقوا، واستلهمت عزائم الراحلين فتغنوا، ويحفل تاريخ مكة الطاهر بشعر ونثر، أما الشعر ففي بطون الدواوين، وأما النثر ففي ترسل الراحلين، لله درهم فكم صالوا وجالوا وقالوا وأسمعوا، ونتاج الترحال المكي حافل بنماذج مضيئة، وأمثلة بديعة، طالما غنت به مكة عشاقها، وأسهرتهم على ليلاها ومنهم مكثر وآخر مقل.
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى
فهيج أحزان الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما
أطار بليلى طائراً كان في صدري
ينادى بليلى أسخن الله عينه
وليلى بأرض الشام في بلد قفر
إذا بان من تهوى وأسلمك العزا
ففرقة من تهوى أمرُّ من الصبر
لله ما أجمل ذلك الشعر، وأبهى ذلك القصيد، ثم لله ما تألق به الرحالة من إبداع وإمتاع وتفنن ورصد وتصوير في حديث شجيّ، وترحال بهيّ، حيث كتب أدباء المشرق العربي ومغربه رحلات متطاولة عجت بها رفوف المكتبة العربية، والإسلامية الغربية، حيث سطَّر الرحالة الغربيون المسلمون في وصف رحلة الحج، وراحلة الحاج، شيئاً جميلاً يتسامى وصفه، ويستعصى نعته، ولعلَّ منفس الرحلة، ينبثق من المغرب العربيَ، والأندلس الرضي، فقد جاد علماؤهم وأدباؤهم، بأعمال خالدة، سطروها في تصوير رحلة الحاج والمعتمر، من وقت العزم، وحتى خاتمة القصد، أبهرتهم مكة، فوصفوا حجهم إليها وما لاقوه من نصب وتعب وجهد ومصاعب ومشاق، كما وصفوا كل ما أخذ بتلابيبهم، وطوق قلوبهم من جميل وناصع وبهي ومشرق، أمامهم مقصدهم الأجل، وهو بيت الله الحرام، وهنا آن للقرائح أن تتَّقد، وللهمم أن تلتهب، فوصفوا الكعبة بكسوتها وبنائها وبابها وستائرها وسطحها، حتى طريقة تحليق الطير حولها صوروه ورسموه، ودرسوه، كما وصفوا مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام، والصفا والمروة، والسعي والطواف، وأبواب الحرم ومصابيحه وقببه وأسواقه وأهله وعاداتهم وتقاليدهم وطبائعهم وعرجوا على كل ما شرد وورد، وطال وقصر، واستصغر واستكبر.
وكم تفنن الأدباء في ثرى مكة رحلة وترحالاً، حجوا إليها، وبذلوا الغالي والنفيس لأجلها، ومرغوا الخد في ثرى أعتابها وعتباتها، فتغنوا على قيثارة أدبها مترنمين.
يقول الدكتور القدير حسن بن فهد الهويمل: (الحج رمز التجمع والمساواة والتجرد والأداء الحركي المتواصل، ولهذا اعتورته أقلام العلماء والمفكرين والمبدعين، تحلب أشطره حكمة وعلماً وموعظة وذكرى، وأصبحت الكتب المؤلفة، والموسوعات المختارة، والدواوين الشعرية المنتخبة مسرح الأنظار، ولزز الأفكار، وكم من عالم ومفكر وشاعر حج أو اعتمر وطاف وسعى ونحر ورمى، ووقف بعرفات، وأقام بمزدلفة، وبات بمنى، وشهد المشاعر كلها، وأدى الشعائر جميعها، وابتغى من فضل الله في أسواق مكة، وخب ووضع في شعابها، مستذكراً أحداثها العظام، ومتخيلاً عظمائها الأفذاذ، ممن صنعوا التاريخ، وأرسوا قواعد الدين، فكان أن فاضت العواطف بمشاعرها، والعقول بتأملاتها، والأفكار بتصوراتها، وتشكلت من كل ذلك ثروة علمية وفنية أمدت المكتبة بجلائل الأعمال) يقول الشاعر الملهم طاهر زمخشري:
أهيم ومن خاطري التائه
رؤى بلد مشرق الجانبين
يطوف خيالي بأنحائه
ليقطع فيه ولو خطوتين
أمرُغُ خدي ببطحائه
وألمس منه الثرى باليدين
وألقى الرحال بأفيائه
وأطبع في أرضه قبلتين
أهيم وللطير في غصنه
نواحُ يزغرد في المسمعين
فيشدوا الفؤاد على لحنه
ورجع الصدى يملأ الخافقين
فتجري البوادر من مُزنه
وتُبقى على طرفه عبرتين
تعيد النشيد إلى أذنه
حنيناً وشوقاً إلى المروتين
وقد كانت هذه الرحلات رافداً من روافد العلم والمعرفة، ويشير الأديب عبدالعزيز الرفاعي في كتابه (الحج في الأدب العربي) إلى أن رحلات العلماء والأدباء والشعراء إلى الحج، كان لها الأثر الكبير جداً في التأليف والسماع والحركة العلمية والأدبية والحضارية في العالمين العربي والإسلامي، فقد كان لها الدور الكبير جداً في المحافظة على التراث العربي سواء أكان علمياً أم أدبياً، حيث أن العلماء كانوا ينتهزون فرصة الحج في أخذ العلم عن مشاهير علماء الحرمين الشريفين مكة والمدينة، وكان من دأب هؤلاء العلماء استغلال هذه الفرصة في نسخ الكتب، فقد فقدت كتب ألفها علماء المشرق ووجدت في المغرب العربي لحرص العلماء على نسخها ونقلها والاحتفاظ بها، وكان الفضل الأول والأخير في هذا يعود إلى العلماء الحجاج الذين عنوا بنسخها.
وأما الأديب عبدالله بن حمد الحقيل فيقول في كتابه:
- رحلات الحج في عيون الرحالة وكتابات الأدباء والمؤرخين ما ماهيته: (لقد كان الحج عنصراً مؤثراً واضح التأثير، وكان للسماع من أئمة وعلماء الحرمين أثره البعيد في اتساع دائرة العلم والأدب.... وكان العلماء والأدباء والمؤرخون والرحالة يقصدونها من مختلف أقطار العالم الإسلامي ليؤدوا ركناً من أركان الإسلام وليضيفوا إلى ذلك أموراً من أهمها التزوُّد بزاد العلم والمعرفة والالتقاء بعلماء الحرمين والاستزادة من العلم والمعرفة فكان كثير من الرحالة والعلماء وخاصة من المغرب والأندلس يفدون إلى مكة المكرمة لا للحج وحده ولكن لينشروا العلم ويستزيدوا منه ويكونوا صلة بين الشرق والغرب بالثقافة والعلم، ولقد برز علماء المغرب على غيرهم في تدوين الرحلات ومن يطالع كتب الأندلسيين (كنفح الطيب) للمقري (وفهرست الأشبيلي) وغيرها يجد أن كثيراً من العلماء الذين رحلوا إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة كانوا رسل علم وحملة ثقافة ودعاة معرفة حتى أثر عن بعضهم كتب دونت ما كان يطرح فيها من مسائل العلم وقضايا الأدب والنقد واللغة).
وعلى مدى زمن الناس، وتعدد أيامهم قالوا في الحج كثيراً، فهذا أبو تمام يمدح رحلة الحج بقوله:
وطول مقام المرء في الحيَ مخلق
بديباجتيه فأغترب تتجدد
فإني رأيت الشمس زيدت محبة
من الناس أن ليست عليهم بسرمد
* * *
إليك إلهى قد أتيت ملبياً
فبارك إلهى حجتي ودعائيا
قصدتك مضطراً وجئتك باكياً
وحاشاك ربي أن ترد بكائيا
كفاني فخراً أنني لك عابد
فيا فرحتى إن صرت عبداً مواليا
إلهي فأنت الله لا شيء مثله
فأفعم فؤادي حكمة ومعانيا
أتيت بلا زاد وجودك مطعمي
وما خاب من يهفو لجودك ساعيا
إليك إلهي قد حضرت مؤملاً
خلاص فؤادي من ذنوبي ملبيا
وكيف يرى الإنسان في الأرض متعة
وقد أصبح القدس الشريف ملاهيا
يجوس به الأنذال من كل جانب
وقد كان للأطهار قدسا وناديا
معالم إسراء ومهبط حكمة
وروضة قرآن تعطر واديا
وهنا توجع وبكاء ومناجاة صادقة قال فيها الشاعر ما قال
وعن الوقوف بعرفة قالوا:
وبعد زوال الشمس كان وقوفنا
إلى الليل نبكى والدعاء أطلناه
فكم حامد كم ذاكر ومسبح
وكم مذنب يشكو لمولاه بلواه
فكم خاضع كم خاشع مذلل
وكم سائل مدت إلي الله كفاه
وساوى عزيز في الوقوف دليلنا
وكم ثوب عز فى الوقوف لبسناه
ورب دعانا ناظر لخضوعنا
خبير عليم بالذي قد أردناه
حرس المولى -جلً في علاه- مكة وبكة وأم القري فهي منفس الوالهين، ومتنفس الأوابين وترياق المهللين والمكبرين والحامدين والشاكرين.
* تعد رحلات الحج إلى الأماكن التي قدسها الله، وثيقة تاريخية خطيرة تمنح الباحثين والدارسين والمعنيين بالأماكن المقدسة علماً وفيراً وأدباً جماً، وغالباً ما تأتي المعلومات عن المدينتين الإسلاميتين المقدستين (مكة المكرمة والمدينة المنورة) متشكلة وفق أنماط ثلاثة إما مكتوبة أو مرسومة أو مصورة لرصف الماضي التليد بسماته الحضارية والمادية والتاريخية، وقد برعت رحلات الحج وامتازت في رصف طرق المواصلات البرية والبحرية التي تمتد بين مقام الحاج، وبين الجزيرة العربية ومثاله ما أبدعه الرحالة المسلم (روح الدين ما فاجوا) حين رسم ووصف الطرق البحرية بين مسقط رأسه الصين وحتى جزيرة العرب -عمرها الله- وكان ذلك زهاء سنة (1841هـ).
وكتب رحلات الحج هي أرث حضاري تاريخي جغرافي علمي أدبي ديني.
وتذكر المصادر التي عنيت بأدب الرحلة والترحل إلى حج بيت الله الحرام أن الأعيان من العلماء والأدباء والرحالة اختلفت مشاربهم وتنوعت مسالكهم، وتباينت طرقهم في رسم رحلاتهم، فهناك من يحج لمرة واحدة فيكتب رحلته الوحيدة وكيف كانت حجته، ومنهم من يعدد فيكتب بحسب حجاته المتعددة، على أن جُلّ أعيان الزمان يكتبون عن رحلاتهم بأنفسهم، وهناك من يحدد شخصاً ملازماً له يدون ما يمليه بنفسه عليه، وبعض الأفذاذ يكتب رحلته على شكل يوميات، والبعض الآخر يسجلها بكل واردة وشاردة فيها، لحظة بلحظة، وبرهة ببرهة، وهناك من يرسمها على شكل موجز فيجعلها على نمط رؤوس أفكار، وعناوين لافتة فإذا ما عاد لمسقط الرأس شمر عن ساعده/ وأذكى عزيمته، وأتى بما يبهر الناظرين، في رحلة طوف في سبيلها، وخاض من أجلها الجبل والسهل، والأجدب والخصب، والوعر واليسير، وكل ضارب في الحج وشد الرحال إليه بسهم يتفاوت فيه الناس بحسب القدرة الذهنية، والمخيلة الواسعة، والذاكرة اللاقطة، والأسلوب المرسل، والخاطر الفائض، وهي مقبولة عند محبيها والطاعنين فيها، بحسب تباين الأذواق وتفاوتها، ولولا الاختلاف في الأذواق لبارت حاجات الناس وسلعهم.
ولما رأت أبصارهم بيته الذي
قلوب الورى شوقاً إليه تضرّم
كأنهم لم ينصبوا قط قبله
لأن شقاهم قد ترحّل عنهم
فلله كم من عبرة مهراقة
وأخرى على آثارها لا نقدم
فكم من عتيق فيه كُمل عتقه
وآخر يستسعي وربك أكرم
ومن نافلة القول التي يشار إليها في هذا المقام هي أن قرائح المبدعين السعوديين ووجدانيات المرتحلين منهم شحت في الترحال إلى هذا البيت العظيم، فعلماء وأدباء ونبغاء البلاد العربية والإسلامية طرقوا هذا الجانب بإسهاب وتفصيل وإفاضة، وتنافسوا في ذلك، بروحانيات ووجدانيات ورحلات نثرية سطروها عن زيارتهم وحجهم لبيت الله الحرام، وطرحوا نتاجهم طرحاً شيقاً جميلاً، وأمتعونا بكل ما جادت به خواطرهم من كل ماتع ظريف وطريف، ومن هنا تجدر الإشارة إلى أن الأدب الحجازي السعودي أولى من غيره بكنوز الرحالة والمترحلين، والسؤال الطارح لنفسه هو: هل اعتدنا على رؤية مكة المكرمة مراراً وتكراراً فذبلت القرائح، وأجدبت اللواعج؟
غير أن الحاج إلى البيت الحرام حيث مكة تلك البقعة المقدسة، ما أن يؤمها من كل حدب وصوب إلا أن يحدوه الشوق، ويأخذه الحنين، حتى يرى معالمها بارزة، فيفيض وجدانه بأجمل التعابير، وأبلغ العبارات، وأبدع الإشارات، ويأتي بلاده محملاً بتحليلات دقيقة، ومعلومات بديعة، فالحاج من خارجها يطوي المسافات، ويقطع القفار والصحارى، في رحلة وترحال مضنٍ متعب، فإذا رأى أعلامها بارزة، وأطلالها بارقة انجلى التعب، وهانت الصعاب، وذهب الظمأ، وابتلّت العروق، واغرورقت الدموع، وجادت العزائم، واتّقدت المواهب، وتلاقحت الأفكار، وتدفقت بنات الخاطر، فإذا به ينضح بما في إنائه أدباً من نثر ورحلة وترحال يمتع السامعين، ويخلب ذوق الذائقين.
فلله در الحج من مشعر وشعيرة كم أثرى وأذكى وأوقد وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
ولعلَّ من المفيد هنا الإشارة إلى رأي للدكتور إبراهيم الدغيري المتخصص في أدب الحج فهو باعتباره أستاذاً مشاركاً في قسم اللغة العربية بجامعة القصيم درس هذه الظاهرة وناقشها نقاشاً جميلاً هادفاً وقد جاء رأيه ضمن تحقيق صحفي نشر بجريدة الرياض الغراء حيث قال:
(انتهيت قبل أيام من قراءة أطروحة دكتوراه عنوانها: «الحجاز في أدب الرحلة العربي» قام بتأليفها باحث باكستاني مبدع ومجتهد في جامعة باكستانية، وقبلها كنت أتصفح كتاباً علمياً ضخماً تبلغ صفحاته قرابة الألف، عنوانه: «الرحلة إلى بلاد الحجاز في الأدب المصري الحديث» مؤلفه باحث مصري جاد في جامعة الأزهر، وكتاباً آخر عنوانه: «الرحلة الحجازية» وهو أطروحة علمية قدمتها باحثة مصرية من جامعة الأزهر، وآخر من بلاد المغرب العربي عنوانه: «الرحلة وفتنة العجيب بين الكتابة والتلقي» يتخذ من رحلات الحج مادة أساساً.
وإنه ليوجد مهتمون بأدب الحج في كل من دولة الإمارات والجزائر وتونس والهند وغيرها من البلاد العربية والإسلامية بلغ من حماستهم أن أقاموا جمعيات أو دور نشر أو حقولاً علمية داخل الجامعات تهتم بهذا الموضوع وتسهم فيه وقد رشح عنهم دراسات ومؤلفات معتبرة تأطر من خلالها موضوع الأدبية في النصوص الرحلية والحجية بشكل يبعث على التفاؤل بأن حقلاً معرفياً وجنساً أدبياً أخذ بالتشكل.
إن اهتمام تلك الأقطار بموضوعية الحج، وقدسية مكة والمدينة ليس محل عجب، إذ يمثل القطر الحجازي أهمية خاصة لكافة المسلمين عرباً وغير عرب، وهم مشكورون جداً على جهودهم العلمية، ومساهمتهم المعرفية.
وأضاف الدكتور الدغيري متعجباً من انصراف أبناء وبنات البلاد التي تضم الحرمين الشريفين عن هذا الحقل الحضاري المعرفي الواسع الواعد، كيف ضاقت أقلامهم وقرائحهم عن الاهتمام به إن على مستوى الإبداع شعراً ونثراً أو على مستوى الدراسات تحليلاً وفحصاً؟
إنني أتحدث هنا من الزاوية الأدبية والثقافية فبعد جيل من المهتمين الرواد أمثال حمد الجاسر وعبدالعزيز الرفاعي وعاتق البلادي.. لا يوجد الآن مهتم شمولي يكتب في هذا الموضوع، ولا قسم جامعي يعتني به، ويكفي أن أشير إلى أن أدب مكة والمدينة وأدب الحج لم تنجز فيه على المستوى السعودي، إلا دراسات محدودة جداً بعضها كتب منذ عشرين عاماً، قد يعود الأمر إلى الغفلة عن هذا الموضوع، لكن ذلك لا يكفي كيف يغفل أهل الدار عن كنوزهم؟ وقد يعود الأمر إلى تصور أن هذا الاهتمام بهذا الموضوع هو ديني محض، وأن المؤلفات في أدب الحرمين الشريفين ذات طابع فقهي أو تعبدي، وهو تصور خاطئ تماماً، لأن لفظة الحج اكتسبت دلالات إشعاعية جعلتها أوسع من دلالتها التعبدية المحصورة بالأفعال المخصوصة.
لقد أصبحت كلمة حضارية تستقطب العلماء والمثقفين والأدباء والكتّاب ليبدعوا في الحديث عنها.
هناك آلاف القصائد التي كتبت عن الحج بنفس شعري رائع، عدد من الشعراء كتبوا عن الحج وهم لم يحجوا، مما يعني أن دلالة الحج اكتسبت معنى غير اصطلاحي يدنيها من الشعرية مثلها مثل نجد والعقيق وجبل الريان... فكما اهتمّ الشعر بموضوع مكة ومشاعرها والمدينة ومحيطها فإن الكتابات النثرية حفلت بالعديد من اللمحات خصوصاً الروائيين المكيين والكتّاب المدنيين لكن إسهامهم لا يوازي أهمية المكانين، فجلّ الأوصاف الأدبية والكتابات التقريرية يكتبها الرحالة الوافدون الذين يحملون مشاعر جديدة تجاه المكان أكثر من أبناء المدينتين، وختاماً قال: إنه على أهمية الدراسات التخصصية الصادرة عن الجهات المعنية التي تدرس مكة والمدينة من حيث المناخ أو التعليم أو إدارة الحشود. إن التآليف الحضارية والكتابات الثقافية والنصوص الإبداعية عن قطر الحجاز تعاني من صدود الباحثين السعوديين لأمر غير مفهوم، وليس لي إلا أن أردد هنا ما قاله إبراهيم الفلالي قبل سبعين عاماً في مجلة المنهل إذ يقول: «في زحمة الحج أدب تمتلئ به الدفاتر وتكتظُّ به الصحف ويستهوى النفوس بحلاوته ويختلب العقول بطلاوته، لو كان لدينا من يكتبه ويعنى به، ولكن تلك الزحمة التي تختلف إلينا كل عام تصرفنا عن هذا الأدب القيِّم الممتع فنفتقد بذلك ثروة أدبية نحن في أمس الحاجة إليها».
وخير ما نختتم به هذا التسيار المحلق بين ثريا وثرى الترحال. ما كتبه الرحالة والأديب أحمد حسن الزيات في مجلته (الرسالة) ناعتاً وواصفاً رحلته للحج، وبأسلوب بليغ، وديباجة فصيحة يقول: (أذن هلال ذي الحجة في المسلمين بالحج فأتوا بيت الله من كل فج عميق، ومن كل قطر سحيق، وعلى كل ضامر، وفوق كل عائم وطائر، ليشهدوا المؤتمر الإسلامي الإلهي الذي فرض الله شهوده على كل مسلم مرة في العمر ليؤلف القلوب في ذاته، ويواخي الشعوب في نسب الحق، ويستعرض علائق الناس في كل عام فيوشجها بالإحسان، ويوثقها بالتضامن، وينفح من منابعة الأولي على الآمال الذاوية فتنصر، وعلى العزائم الخابية فتذكوا) ثم ماذا قال الزيات -رحمه الله- عن الحجاز وأهله: (إن في كل بقعة من بقاع الحجاز أثراً للفداء، ورمزاً للبطولة، فاللحج إليها إيحاء بالعزة، حفز للسمو، وحث على التحرر وتذكير بالوحدة، هنا غار حراء... وهنا دار الأرقم، ... وهنا غار ثور... وهذا هو البيت الذي احتبى بفنائه أبو بكر وعمر وعلي وعمرو وسعد وخالد والغطاريف من بنى هاشم وبني أمية، وتلك هي البطحاء التي درج على رمالها قواد العالم، وهداة الخليقة).
هذه هي مكة، وهذه هي الرحلة إليها، وهذا هو ترابها وثراها:
ترابك أندى من فتيت معطر
وصخرك أجدى من كريم الزمرد
طبت مكة، وطاب الحاجون لثراك، فكم فيه من قتيل ومغرم ومستهيم ومعنى.
** **
حنان بنت عبد العزيز آل سيف -بنت الأعشى-
عنوان التواصل: hanan.alsaif@hotmail.com