حسن اليمني
لابد لما نعيشه اليوم من أحداث فيما حولنا أثر ونتائج مثلما هي نتاج أحداث سبقتها، والعبرة في استشراف ملامح المستقبل والاستعداد له.
وفي الغالب يُرى استشراف مستقبل الأحداث من واقع المقدمات من باب التنجيم بالغيب أو ضرب الودع، بينما هو في اعتقادي مجرد قراءة للأحداث وعرضها لميزان المنطق.
على سبيل المثال هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على المنطقة العربية من مشرقه إلى مغربه دون مزاحم أو منافس بعد سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991م، ثم غزو أفغانستان ثم العراق وتكرار حروب «إسرائيل» شمال وجنوب فلسطين لا يعطي أبداً مجالاً للتفكير بأن تلك أحداث لها نتائج تنهي هذه الدورة وتصنع واقعًا مختلفًا, علَّمنا التاريخ أن لا شيء يبقى كما هو، وعلَّمنا التاريخ أن لكل قوة ضعفًا مثلما أن لكل ضعف قوة، وإنما هي الأسباب والمعطيات التي تصيغها الأحداث والحسابات الخاطئة وإلا هل كان هناك أحد يظن أن أفغانستان ستصبح سويسرا آسيا أو أن العراق سيتحول إلى كاليفورنيا أو أن الشعب الفلسطيني سينقرض!! ثلاثة عقود كانت كافية لتبدأ أمريكا الانسحاب من هذه المنطقة وتدخل روسيا لتصبح لاعباً مؤثراً كما حدث في سوريا ويصبح العراق تحت الهيمنة الإيرانية وطالبان الأفغانية تعود لتسيطر على الحكم وتؤمن الطريق لحماية آخر جندي أمريكي ترك أسلحته وعتاده هارباً على عجل.
لاشك أن ما يجري اليوم ونشاهده إنما هو نتيجة أحداث جرت بالأمس - والأمر كذلك - فبهذه القاعدة تكون هذه النتيجة هي مقدمة لأحداث ستقع لاحقًا, هذا هو منطق الأشياء والأحداث السياسية والعسكرية والاقتصادية وما إلى ذلك, كلها تبدو مواد فيزيائية وعناصر كيميائية بفعل حركتها وتبدل عناصرها لابد لها أن تنتج واقعاً مختلفاً, البحث في هذا المنتج المحتمل يحتاج بالضرورة لإعادة النظر في ما يجري باعتباره أداة لخلق الناتج المحتمل, والأمر فقط يحتاج لقراءة صحيحة وعميقة لراهن الأحداث للوصول إلى أقرب احتمالاته, وبالتالي لا علاقة للتنجيم بما يمكن أن يستقيه العقل من معطيات الحاضر لتوقع نتائجه المستقبلية.
إن سيطرة الصين على تايوان حدث يكفي لإشعال وتسخين منطقة جنوب شرق آسيا ليصبح حدث العالم, واحتمال توجه الصين نحو تايوان أمر قادم لا محالة، وانسحاب الأطلسي من أفغانستان بالمشهد الذي رأيناه وترهل القوة الأمريكية في المنطقة العربية ينبئ به ويكشفه، لكن ماذا يعني هذا بالنسبة لنا كعرب في منطقتنا العربية؟
إنه يعني في ما أتوقع تزحزح الاهتمام الغربي في الجانب العسكري والاقتصادي من غرب آسيا وشمال إفريقيا إلى بحر الصين وجنوب شرق آسيا عمومًا هذا في جانب، ومن جانب آخر صار شرق البحر المتوسط وبحر أيجه والبحر الأسود بؤرة ساخنة منذ قرابة العقد من الزمن إلا أنه في الآونة الأخيرة زاد اشتعال بعد تدحرج الأساطيل الأمريكية في هذه المنطقة واتساع القواعد الأمريكية في اليونان وجزرها, هي إذن منطقتان أو بؤرتان جديدتان تُهيأ لتُشعِل أحداثاً مستقبلية قريبة, النقطة الأولى مع الصين والأخرى مع روسيا, مع الصين هناك تايوان والاقتصاد، ومع روسيا هناك أوكرانيا والقرم في الشمال، وهناك تركيا واليونان في الجنوب على آثار الحرب العالمية الأولى, وكعربي فإن الشعور هو أن الغرب يخرج من نقطة الارتكاز في المنطقة العربية (فلسطين وإسرائيل) ويتجه نحو تفعيل بؤر ونقاط مع مصادر الإرباك والتأثير العالمي (روسيا والصين)، والبعض يتساءل كيف يمكن هذا وقاعدة حميم الروسية على الساحل السوري وإيران تلخبط أوراق المنطقة, لكن هذا يقابله إسرائيل ودول الخليج العربي كقواعد للغرب باقية في نقطة الارتكاز، أي المنطقة العربية أو قل الشرق الأوسط, وبالإمكان التفكير في حال حدوث إشعال وتسخين يتجاوز البؤرتين المستجدتين إلى مساحات متقدمة نحو القطبين الصيني والروسي كيف يمكن أن تدور الأحداث في منطقتنا العربية خاصة وأن القوى المواجهة للكيان الإسرائيلي صعدت بقوتها وظهر ذلك واضحًا وجليًا في الأحداث الأخيرة بصرف النظر عن القوة النووية المدمرة التي تمتلكها إسرائيل، إلا أن هذه القوة ليست للاستخدام في واقع الأمر بل هي للانتحار، وهو ما يعني أن حدوث مفاجأة غير متوقعة تبدو محتملة بدرجة كبيرة, أما من جهة إيران وإن بدت متوازية مع الجبهة المقابلة لها إلا أن اشتعال الجهة الأخرى أي مع إسرائيل سيمنح إيران قوة أكبر وأمضى في المنطقة لا يقف موازاته إلا وجود تركيا وتدخلها، لكن الأقرب استناداً على ظروف واقع اليوم السياسية في المنطقة العربية وفي حال اشتعلت النقطة الأولى (إسرائيل وما حولها) قد نجد تركيا وإيران وربما الباكستان في جبهة واحدة.
في وثيقة نشرتها صحيفة (إسرائيل اليوم) صادرة عن مركز بيغن - السادات للدراسات الإستراتيجية وكذلك أحد الجامعات الإسرائيلية يكشف أن أي حرب قادمة لن تكون «مناطقية»، أي لن تكون محصورة في مكان وجماعة محددين سواء حزب الله أو حركة حماس كما جرت العادة ولكنها ستكون حرباً متعددة الجبهات وربما إقليمية بشكل يكاد يكون مؤكدًا، بل وتصفها بحرب وجودية تذكر بحرب «الاستقلال» حسب تعبيرها. والحقيقة أن المعطيات التي خزنتها العقود الماضية وتطور وتقدم هذه المعطيات إلى حد المبادرة بإشعال الحرب من أجل القدس من قبل فصائل فلسطينية، ومعلوم أن استبدال عنوان الصراع من القضية الفلسطينية إلى القدس هو تحول أو تطور في مضمون أوسع ينسف كل عمليات التقليم والتشذيب لحقيقة الصراع, وكما يصف المركز البحثي الإسرائيلي ستكون حرب إعادة «الاستقلال» أو نهاية إعلان ما تصفه بالاستقلال عام 1948م, هذه النتيجة التي توصل إليها المركز المذكور توصلت لها مصادر أخرى كثيرة إلى درجة أن حدد بعضها التواريخ والنتائج.
أعتقد أننا أمام تشكل عالم جديد ستظهر بعض ملامحه خلال العام الميلادي القادم, إذ يبدو أن حراك القوى العالمية وتزاحم التنافس على القمة في السيطرة والهيمنة أصبح قاب قوسين أو أدنى من الاحتكاك أو الانفجار بشكل أصح, فالولايات المتحدة الأمريكية برغم ما تملكه من سعة في القوة بكل المجالات إلا أنها في هبوط بينما تصعد الصين وتتوثب روسيا, أما عن حلفاء أمريكا الأوروبيين فقد هرمت وظهر واضحًا وجليًا ترهل هذه القوة بغض النظر عن الجعجعة التي نسمعها بل وظهر في أوروبا من يدعو لتشكيل قوة مستقلة يمكن الاعتماد عليها بدلاً من القوة الأمريكية, وحين ترى هبوطاً قوياً فاعلم أن ذلك يحدث نتيجة صعود قوى أخرى وظهور التقنية والإليكترون قوة بديلة للقوة النووية من حيث الاستخدام والتأثير في إدارة الحرب تعني أننا إزاء عصر جديد وعالم مختلف تقوده قوى صاعدة ستمر بمرحلة التوازن مع القوة القديمة لفترة ثم تمضي في صعودها بالدرجة نفسها التي تتراجع فيها القوى القديمة.