أجزم أن فراق الأحبة مؤلم، وأشده إيلامًا فقد الوالدين وخاصة الأم الحبيبة الذي قد لا يحس بكنه فقدها إلا من تجرع مرارة غيابها.. إذ يعد فقدها رزية كبيرة ومصابا جللا، كيف لا وهي التي حملتك في بطنها تسعة أشهر ثم رعتك وغدتك طفلاً رضيعًا وظلت ترعاك، وتتفقد أمورك، وتسهر على راحتك طوال سني حياتك صبيًا ثم شابًا حتى وأنت رجلا تجدك دائم الحاجة إليها.. ومن مثل الأم جنة الدنيا وبسمة الحياة في كفاحها وتربيتها.. وقبل أن أكتب هذه السطور عن والدتي الغالية منيرة بنت محمد بن عبد المحسن الفالح التي غادرت الدنيا مساء يوم الاثنين 22 محرم 1443هـ وواريناها الثرى في اليوم الذي يليه في جنازة مشهودة حضرها جمع غفير من الأقارب والأصدقاء والمحبين.. وبعد أن هدأ روعي جراء هذا الفقد ترددت كثيرًا في الكتابة عنها ولاسيما وأنا لا أجيد فن الرثاء.. وحدثت نفسي كيف أكتب، وماذا أكتب، ولمن أكتب ولا سيما وأمي الفاضلة كانت طوال حياتها شجرة وارفة الظلال تربينا في كنفها صغارًا وكبارًا.. فكانت كسحابة الخير الممطرة تربية، وعطاءً وجودًا وإحسانا.. رحلت في غمضة عين ونحن أحوج ما نكون إليها تاركة ـ كأي أم ـ فراغًا كبيرًا في حياتنا من الصعب أن يملأه أو يعوضه أحد.. وبعد تفكير وتردد استعنت بالله ورأيت من المناسب أن أكتب شيئًا عن حياتها وأسلوبها في التربية وعلاقاتها، وبرها وإحسانها، فذاك مما يستحق أن يكتب ويستفاد منه.. ولأن شريط الذكريات طويل لاح في ناظري الكثير من المواقف التي تستحق أن تروى وما المناسب منها للوقوف عنده.. فوالدتي الفاضلة امرأة صالحة تملك حضورًا مميزًا في أوساط أسرتها النواة، والممتدة، ولها شخصية حازمة في تربية أولادها، إلا أنها تملك كل معاني العطف والرحمة، كما أنها لها كفًا ندية.. وقلبًا مخمومًا جعلها تبادر في صلة رحمها بشكل عجيب، بل وكان جزء من تربيتها لنا الحث على صلة الأرحام.. تكبدت المشاق هي ووالدي الكريم- رحمهما الله- في بداية حياتهما حيث سافرا من الزلفي إلى دولة الكويت طلبًا للعلاج حيث أصيبت بالدرن ووالدي بالتصاق الرئة في منتصف الخمسينيات الميلادية، وقد يكون لوجود السيارات المتوفرة للذهاب إلى الكويت سبب في ذلك قبل تعبيد الطرق حيث أمضيا عدة شهور إلى أن شفاهما الله ليعودا إلى أرض الوطن، وقد حدثتني الوالدة- رحمها الله- كثيرًا عن هذه الرحلة وقد نظمت فيها أبياتا جميلة إذ تعد شاعرة ولكنها مقلة- رحمها الله-،ومن القصص التي روتها لي في رحلة العلاج أن فتاة سعودية كانت حاملاً في شهرها الأخير ترقد معها في نفس غرفتها بالمستشفى ألحت عليها بأن تقف معها عند الولادة حيث قالت إن أطباء النساء والولادة في المستشفى رجال ولا تريد أن يقوم بتوليدها رجل.. وتقول بعد إلحاح منها ولما قربت ساعة الولادة وكنا شابتين في مقتبل العمر تسللت أنا وإياها إلى مكان آمن وستير بين الأشجار في حديقة المستشفى بعد تجهيز ما يلزم من أغراض الولادة، وقمت بمساعدتها حتى وضعت حملها بولادة طبيعية، وبعد الانتهاء صعدنا إلى غرفتنا ومعنا المولود وكان بصحة وعافية وكأن شيئًا لم يكن، ولما علم الأطباء بتصرفنا غضبوا منا ولامونا عليه.. فقلت لها نفس قول الأطباء وكيف لهذه الفتاة أن تلد بهذه الطريقة وهي في المستشفى فكان ردها أن هذه الفتاة - كأي فتاة من بنات ذلك الجيل - كن محافظات على الحجاب والستر ومن الصعوبة بمكان أن تكشف للرجال من غير محارمها فضلاً عن أن يتولى توليدها غير النساء.. وبالرغم من كون أمي امرأة أمية لا تجيد القراءة والكتابة إلا أنها كانت فقيهة تبزُ الكثير في الثقافة الدينية، بل وكانت تصحح لنا كثيرا من المسائل وسبب ذلك يعود لملازمتها الدروس والبرامج التي كانت تبثها إذاعة القرآن الكريم عبر المذياع الذي كان لا يفارقها خاصة برنامج نور على الدرب الذي أكاد أجزم أنه لم يفتها منه حلقة واحدة من بداية ظهوره إلى ما قبل سنوات قليلة بعد أن أنهكها المرض.. وكانت ضابطة لمواعيد برامج إذاعة القرآن الكريم تعرف ترتيب جدول حضور العلماء، وتميز بين عالم وآخر من صوته - رحم الله- من مات منهم ومتع بصحة الأحياء - ومما يستحق الوقوف عنده أن أمي آية في الصبر حيث ابتليت بعدد من الأسقام كانت معها راضية.. صابرة.. تتحامل على نفسها لكيلا يحس بألآمها أحد من بنيها أو من الزائرين لها.. ووالله أني ما سألتها عن حالها إلا رفعت يدها وأشارت بسبابتها مرددة قولها الدائم -الحمد الله- وهي على سريرها مؤدية لفرائض ربها في أوقاتها ساعتها على فراشها تعينها على معرفة دخول أوقات الصلوات.. أما في مجال التربية فكانت الوالدة بحق مدرسة في التربية وكان لشخصيتها الحازمة أثر كبير في تشكيل حياتنا صغارًا وكبارًا حيث ربتنا مع والدي الكريم- رحمهما الله- على مكارم الأخلاق منذ وعينا على الدنيا فكان أحدنا في صغرنا لا يستطيع أن يخرج من البيت إلا إلى المسجد.. على أن يعود منه مباشرةعد أداء الصلاة وفي حال تأخر تخرج بعباءتها لتعيده إلى البيت وتحاسبه على ذلك.. كما أن لها أسلوبا في التربية عندما يخطئ أحد من أولادها.. وكانت نظرة تكفي لنضرب لها ألف حساب قبل أن نقع في الخطأ أو نكرره مرة أخرى.. والمواقف في ذلك كثيرة.. سواء في طفولتنا أو ونحن شباب.. أذكر في بداية حياتي الوظيفية وفي السنة الأولى لي في العمل معلمًا أصابني كسر في القدم أعطيت معه إجازة للراحة لمدة أسبوعين.. وبعد أن شاهدتني أمشي في المنزل قالت ما دمت أنك لم ترتح في فراشك وتستطيع المشي لماذا لا تذهب إلى طلابك في المدرسة، وكانت تعرف مدير المدرسة سماعًا مني حيث أخبرتها عنه فنحن جميعًا من محافظة واحدة، وبعد أن طلبت مني الذهاب إلى المدرسة هددتني بأنه في حال لم أفعل فإنها ستقوم بالاتصال على مديرها لتخبره بأنني (لعّاب) وكانت جادة في ذلك.. وفعلاً قطعت إجازتي وداومت في اليوم الثالث.. وقد تفاجأ مدير المدرسة ووكيلها وزملائي المعلمون بقطع إجازتي وحضوري ولما أخبرتهم عن السبب نال تصرفها إعجابهم جميعًا.. علمًا بأن إجازتي المرضية تبقى منها (11) يومًا.. وكانت رسالتها تلك درسًا لي في الانضباط حيث لم أتغيب بعدها عن العمل يومًا واحدًا حتى تقاعدت مبكرًا عن العمل.
أما في مجال صلة الرحم فكانت دائمة السؤال عن أقاربها.. تحثنا على زيارتهم وتلوم كل من لا يؤدي هذا الواجب.. إضافة إلى تفقد جيرانها وصديقاتها من بنات جيلها حيث كانت تزورهم ويزورونها وقت نشاطها.. وبعد أن أقعدها المرض أخذ الله أمانة بعض النساء القريبات إلى قلبها فأخفينا ذلك عنها شفقة عليها لفرط محبتها لهن، وكانت تسأل عنهن وتطلب منا الاتصال بين الحين والآخر بأبنائهن أو ببناتهن عن طريق أخواتي فكان آخر سؤال عنهن قبل دخولها الأخير للمستشفى والتي فاضت فيه روحها الطاهرة- رحمها الله-.. ويحسب لوالدتي أنها كانت عفيفة اللسان لا أذكر أنها تكلمت بأحد طوال حياتها حيث عشت معها تحت سقف واحد سنوات طويلة قبل أن تستقل في بيتها الخاص بجواري والذي كان ملتقى يومي ومن يتأخر عنه عليه الاتصال لمعرفة ما به ولماذا تأخر ليتم إبلاغ سبب غيابه أو تأخره للوالدة.. كما أن أحدنا لا يستطيع أن يسافر دون أن يستأذن منها ويخبرها عن الفترة التي سيغيب فيها.. وقد كانت- رحمها الله- رحيمة بالأطفال تحبهم ولهم نصيب من عنايتها واهتمامها والأطفال يحرصون على زيارتها لاهتمامها بهم ولا يكاد أن يخرج منها طفل دون أن تعطيه كيسًا من الحلوى والبسكويت.. كما أن لها في كل عيد عادة سنوية تجمع فيه كل أفراد الأسرة للسلام ونشر الفرح.. كما أنها ذات بر وصدقة وإحسان كفها ندية في عمل الخير.. وكانت الدنيا لا تشكل لها أي قيمة حيث كانت امرأة منفقة رغم كونها لا تملك من حطام الدنيا شيئًا يذكر.. لما علمت عن أرض لها طلبت من أخي وليد أن يقوم ببيعها على الفور وتخصيص ثمنها لبناء مسجد وتم لها ما أرادت حيث عمرت في حياتها مسجدين أحدهما جامع- ولله الحمد-.. أسأل الله أن يبني لها عن كل مسجد بيتًا في الجنة، وكانت تملك شقة صغيرة في مكة المكرمة لم تسكنها يومًا واحدًا، ولم تستثمرها حيث خصصتها لسكنى من يحتاجها من أقاربها عند ذهابهم إلى مكة.. وقد كتبت في وصيتها أن يصرف ريعها في المستقبل على أعمال الخير ليصبح صدقة جارية لها بعد موتها.. أخيرًا أجزم أنه لو طال بي المقام للكتابة عنها لما انتهيت وكما قيل يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق مكتفيًا بهذه السطور مبينًا بأن الأم - أي أم- هي بمثابة العمود من الخيمة متى ما سقط بدأت عرى التواصل تتفكك رويدًا رويدًا.. إذ إن الأم أيقونة التواصل ورمانة الاجتماع.. ومما يؤسف له أن الكثير من الإخوة قد ذبلت علاقاتهم كبارًا وصغارًا بد رحيل أمهاتهم حيث فقدوا الترابط والاجتماع وهذا شيء مشاهد وملموس.. أسأل الله ألا يكون رحيلها سببًا في ضعف العلاقة وفتورها بيننا وأن نستمر على نهجها في اجتماع الكلمة، والتواصل، والاستقامة، وأن نكمل مسيرتها الخيرة بعد مماتها ليصل أجر ذلك لها ولوالدي الكريم (وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) وقد روي أن بعض الآباء ربما رفعت منازلهم في الجنة فيتذكرون قلة أعمالهم فيخبرون أن تلك الرفعة نالوها بسبب صلاح أبنائهم بعدهم واستقامتهم على نهجهم.. في الختام أعزي نفسي وإخوتي وأخواتي وأخوالي وجميع أقاربي وكل المحبين برحيل هذه الأم العظيمة خاصة أخي (وليد)- وفقه الله ورعاه- والذي كان أوفرنا حظًا ببرها ورعايتها والإحسان إليها وهو الذي لم يفارقها يومًا واحدًا منذ أكثر من خمس سنوات كان يعطيها دواءها ويصنع لها بنفسه وبيده ما تحبه وما تحتاج إليه، ولأن بيتي كان ملاصقًا لها.. كنت أغبطه على ذلك لكونه يأتيها قبل أن يذهب إلى دوامه ليتناول معها قهوة الصباح ثم يعود إليها بعد عودته من الدوام.. وكان ملازمًا لها لا يفارقها في العصر والمغرب وبعد العشاء ولا يتركها إلا بعد أن تنام.. كما أنها لا تستطيع مفارقته ولو تأخر عنها خمس دقائق ونحن حضور عندها طلبت منا الاتصال عليه لمعرفة سبب تأخره.. وكانت ترفض أن يغيب عنها يومًا واحدًا.. وكان لها ما أرادت حيث إنه لم يسافر منذ فترة طويلة إلا إلى محافظة الزلفي لأداء بعض الواجب وكان لا يخبرها حيث يمكث عندها إلى وقت المغرب ثم يسافر ليعود في نفس ليلته قبل الفجر فجزاه الله عنا وعنها خير الجزاء.. أخيرًا- رحم الله- أمي الرؤوم الحنون.. وألحقها بالأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- هي ووالدي وأخي أحمد -رحمهم الله جميعًا- واللذبن سبقاها إلى الدار الآخرة.. كما أسأله أن يجمعنا بها وبهم ووالديهم وذرياتنا في جنات ونهر عند مليك مقتدر.. كما أسأله سبحانه أن يجعل قبرها وقبورهم روضة من رياض الجنة، ومن مات من الأقارب والأحباب والأصحاب وكافة أموات المسلمين.. والحمد لله رب العالمين.
** **
- د. سعود بن عبد العزيز الكليب