ومن مزايا الديرة.. نسبة الغذاء الصحي مرتفعة.. الكمثرى والعنب والحماط وبقية الثمار طازج من الشجر في باحة المنزل.. البيض بلدي للتو باضته الدجاجات التي تربيها وتعتني بها، وحتى الخبز عندما تصنعه في المنزل يصبح شهيًا.. لذة لوز الديرة لا تقاوم، والذرة التي من مزرعتك جَمْرهَا قليلاً وستستمتع بطعم رائع.. في الديرة قد تستغني عن كل شيء دخلته الكيمياء حتى اللحوم بألوانها بيضاء أو حمراء..
من أجمل الأشياء في الديرة لا نرمي بقية الطعام في النفايات.. بل نقدمها وجبة لذيذة للدجاج والطيور والقطط، أشعر بفرحة عندما أرى الحمام والعصافير تتسابق على بقايا الأرز وفتات الخبز..
في الديرة ثمة نبتة عطرية اسمها الضرم جرب تضعها مع اللبن وستتلذّذ بمشروب طَعْم خلاف ما تقدمه من فوائد صحية.. وأيضًا ضع قليلاً من أوراق الريحان على السمن البلدي.. سيجعل له «بَيْنه» غير شكل
ولا تنسَ تمشي بعد هذه الوجبة الدسمة، المشي ممتع وخاصة في المناطق التي لا تسلكها السيارات وعوادمها..
أثناء المشي ومن أي شجرة عرعر.. اقتطع عودًا صغيرًا سيعمل كفرشة أسنان بمعجونها.. كرّر هذه العملية كل يوم.. ولا بأس لو اقتطعت «هدبة» أكبر من حجم الكف قليلاً.. تستخدمها كمكنسة تنظف بها سيارتك وربما حتى السيراميك..
في الديرة كل شيء مقبول؛ الأمطار والجفاف والخريف والشتاء وحتى البرد القارس، عدا العج لا يتقبله الناس لأنه ظاهرة دخيلة على الديرة..
أهل الديرة أكثر معرفة بجبالها وتعرجاتها وجغرافيتها من قوقل مآب.. إنسان الديرة بسيط يعشق الزراعة ويتعايش مع الحيوانات الأليفة ويروّض المتوحشة، وقد يقيم علاقة صداقة معها.. ومن يتلوّن تحرمه الديرة من ملذاتها.
من أراد أن يستمتع بالحياة في الديرة عليه أن يستيقظ فجرًا وينام مبكرًا.. الأفضل ينام دون مكيف.. التكييف يسبب أضرارًا ويضاعف ساعات النوم.. الديرة ابنة النهار.. والقرى تفضل الشمس عن القمر..
إنسان الديرة لا يتكيّف إلا عندما يتعرض للشمس والهواء، ورؤية الغيم والنجوم والسماء.. ومن الصعب أن يبقى بين الخراسانات المسلحة في غير وقت النوم.. لذا تجد مجالسهم ومكان راحتهم في الحوش والساحات..
في الديرة نستخدم عباراتنا المحلية بتلقائية دون أن نشعر.. مثلاً: «لا تدعدع الماء» «طِيب الصحن» «القهوة راشقة» إلخ من المفردات التي لا يستخدمها سوى أهلها ويرى مستخدمها أنها الأكثر تعبيرًا ودقة..
الحياة الاقتصادية في الديرة بسيطة، والحياة الاجتماعية شيقة.. أشكال الناس في الديرة مألوفة، مجرد ترى الشخص تعتقد جازمًا بأنك سبق ورأيته وتحدثت معه؛ حتى لو لم يسبق أن حدث ذلك..
في إحدى المطاعم الشهيرة لمحت أحد أفراد قريتي ومعه آخر من قرية مجاورة.. مازحتهم دون أن يعرفانني اَلْكَمَان كان مغطى وجهي... وبعد أن عرفاني انتقلا إلى طاولتي.. وأثناء تبادل الحديث.. تعرف أحدنا على رابع والآخر استدعى شخصين آخرين.. كان الوقت ضحى.. تجمعنا حلقة كبيرة.. تقريبًا كل عملاء المطعم، حلّت صلاة الظهر ونحن نتبادل حوارًا حميمًا.. وكأننا نعرف بعض نعضًا منذ سنين..
الديرة جميلة بصيفها وبردها، بأوديتها وجبالها.. بنسائها ورجالها..
أكثر شيء يوجعك في الديرة آثار الأولين وذكرياتهم.. بيوتهم ومزارعهم ثم قبورهم.. وخاصة أولئك الذين تعايشت معهم حاورتهم ومازحتهم وضحكتم معًا.. ثم اختفوا إلى الأبد...
وشيء آخر.. الفتاة التي كانت طفلة وحدّثت نفسك بالارتباط بها.. عندما ترى بيتها القديم تحزن قليلاً ثم تبتسم على موقف قديم وطريف، تختلط المشاعر.. ثم تتساءل.. أين هي الآن.! وماذا لو سارت حياتي برفقتها.! هل سيختلف شيء..!
ثم تتنفس بعمق وتواصل طريقك نحو الشتاء، تنتظر وروده وعطوره، ودفء يتكيّف جسدك وروحك معه.. وضيف تبهجك طلته، وتكرر الترحيب به «مرحبًا هيل عد السيل».
** **
- حسين بن صبح الغامدي