إعداد - أ.د. محمد بن يسلم شبراق:
في صباح يوم السبت الرابع من سبتمبر 2021م رَنّ جرس الهاتف النقال، نظرت لرقم المتصل... إنه الأخ والزميل فارع القثامي (أبو ناصر) المكلف من إدارة مركز تنمية الحياة الفطرية لإدارة محمية الإمام سعود بن عبدالعزيز خلال الفترة الانتقالية للمحمية وتسليمها لإدارة المحميات الملكية، جاء صوته يَخْتَلِطُ فيه الفرح والحزن ينْثُرُ العتاب مبطناً على طول الغياب قال لي.. يا أبو فيصل ما تَعودنا منك طول الغياب عسى أمورك زينة، تبادلنا أحاديث وشريطا من الذكريات الجميلة بالمحمية تمر أمامي سَرحْتُ فيها بين قطعان المها العربي وغزلان الريم وصوت ذكر طائر المكاء (أم سالم) في الربيع يعزف لحن الصحراء مع رقصاته البهلوانية، ونسور الأذون متجمعة على قمم الأشجار تنتظر أن يسخن الهواء لتتمكن من العلو بالسماء.
لم يمهلني أبو ناصر طويلاً فقد طرح عليَّ سؤالاً فيه من عتاب المُحِب فقال يا دكتور.. في أول عطلة نهاية أسبوع من شهر سبتمبر من كل عام كنت تطل علينا بمقالة تُثْرِينا بمعلومات عن نسور العالم والوطن تجعلني أبحر في ذكريات لأيامٍ خلت كنا نتابع فيها نسور الأذون سوياً بالمحمية، ولا أخفيك يا أبو فيصل أنا أنتظر هذا اليوم لأستزيد من المعلومات عن النسور، وأَسْعدُ بما تثرينا به من معلومات، ما شاء الله عليك يا أبو ناصر هذه المقالات هي مشاركة في اليوم العالمي للتوعية بالنسور نشارك مع العديد من المنظمات حول العالم هذه المناسبة للتعريف بالنسور وأهميتها بالنظام البيئي ودورها العظيم في الحد من انتشار الأمراض من خلال قيامها بالتخلص من الحيوانات النافقة نتيجة أمراض معدية للإنسان بطريقة طبيعية لتُقدّم خدمة مجانية للبشرية في التخلص من خطر العدْوى بهذه الأمراض المعدية، كما توفر مبالغ باهظة ستصرف في برامج وقاية من هذه الأمراض وأخرى لعلاج المصابين بهذه الأمراض.
المخاطر التي أدت لتدهور أعداد النسور
أتعْلم يا أبا فيصل أنا اتصلت بك للاستفسار! فهذا العام (2021م) رصدنا 32 عشاً لنسر الأذون بالمحمية لكن مع الأسف الشديد نفق منها 19 فرخاً، لا نعلم سبب نفوقها، كنا نشاهدها مَيّتَة بالأعشاش، وبعضها نجد أحد الأبوين بالعش ميتاً أيضاً مع الصغير.. هل لديك فكرة عن الأسباب؟ وهل هناك دراسات تدل على أسباب تناقصها؟ وهل هذا شيء طبيعي من خلال دراستك السابقة بالمحمية؟
ما شاء الله عليك يا أبو ناصر جهودكم واضحة وسعيد أن يهتم المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية بمتابعة الجوالين للتنوع الأحيائي بالمحمية وخاصة النسور، أما موضوع نفوق النسور فهي مشكلة عالمية فقد تناقصت أعدادها بشكل كبير في جميع مناطق انتشارها في العالم حتى اختفى بعضها من مناطق وتقلصت رقعة انتشارها فَدَخلت أنواع منها بقائمة الأنواع المهددة بالانقراض، وأخرى تعدت ذلك لِتَقترب من مرحلة يعرفها علماء الأحياء بدوامة الانقراض (Extinction Vortex)، وهي المرحلة التي يصعب إنْقاذِها وذلك لكثرة متطلبات الخروج من هذه المرحلة والتَكْلُفةِ المالية الباهظة، بالإضافة للفترة الزمنية الطويلة التي تحتاجها لإخراجها من هذه الدّوامة، ناهيك عن الخسائر الاقتصادية والصحية التي قد تظهر نتيجة اختفاء هذه الطيور من النظام البيئي.
هنا أوقفني أبو ناصر قائلاً: شوي... شوي علي يا أبو فيصل... وخلينا في نسور السعودية وبالأخص نسور محميتنا،
حاضر يا أبو ناصر بس أعطيني من حلمك شوي أولاً بالنسبة لنفوق فراخ النسور أرى في ظل عدم وجود دراسة يصعب تقديم أسباب، فالموضوع يحتاج لدراسة ومتابعة بشكل جدي، لكن حسب وصفك فهناك عدد من الاحتمالات منها ارتفاع درجات الحرارة هذا العام التي يمكن أن تؤثر على الفراخ، كذلك هناك احتمال كبير أن يكون للتسميم دور مهم في نفوق الفراخ خاصة أنك ذكرت وجود حالات نفوق للكبار أيضاً بالعش، وهذه الظاهرة تم تسجيلها بالمحمية من قبل، والحقيقة أن التسميم مشكلة عالمية فهو ليس خطرا على النسور فقط لكن على الأنواع المترممة الأخرى من الطيور الجوارح والثدييات، فالنمر العربي وهو أندر أنواع الثدييات بالمملكة، فلم تسجله دراسات المتابعة بالكاميرات والمسوحات الميدانية على امتداد مناطق انتشاره، لكن التسميم سجل لنا أكثر من خمسة أفراد من النمر العربي نافقة، والنسور ليست من مصير النمور العربية ببعيدة، فهي لم تسلم من التسميم سواء كان بشكل مباشر أو غير مباشر.
هنا أوقفني أخي فارع وقال كيف يكون التسميم المباشر وغير المباشر؟
سؤال جميل يا أبو ناصر.. المباشر هو وضع السم في غذاء النسور وهي الجيف بقصد قتل النسور مباشرة، والحمد لله هذا لم يسجل هنا بالمملكة، لكن سجل في عدد من الدول الأفريقية حيث يقوم صيادو الفيلة بتسميم جيفة الفيل بعد قتله والحصول على أنيابه لقتل النسور، وذلك لأنها تساعد حراس المحميات في العثور على الفيل المقتول بشكل أسرع، فسلوك الطيران وتعاونها في تغطية مساحة كبيرة في أجواء المنطقة يجعلها تنتشر لمسافات شاسعة يجعل منها أداة سريعة لاكتشاف الحيوانات النافقة، فترشد حراس المحمية على مكان الجيفة بشكل أسرع وهذا يجعل من السهل كشف هذه الجريمة والحصول على دلائل تدين المجرمين، وعليه فإن صيادي الفيلة غير النظاميين يقومون بتسميم الجيفة حتى يقضوا على النسور فلا يمكن اكتشاف جريمتهم، وللعلم فقدت القارة الأفريقية آلافا من النسور نتيجة هذا التسميم.
عقار الدايكلوفيناك وخطره على نسور العالم
أما التسميم غير المباشر فيحصل بأربع طرق الأولى هي: بوضع السم للتخلص من الكلاب الضالة أو المفترسات لخطرها على المواشي ولكن عندما تتغذى النسور عليها تموت مسمومة، وهذا النوع من التسميم يمثل النسبة الأكبر لنفوق النسور، حتى هنا بالمملكة فقد وجدنا أكثر من 25 نسراً أسمر نافقاً بمنطقة تهامة، وأعتقد أن تسجيلكم لطيور بالغة وفراخ بالعش نافقة ربما يرجع لهذا النوع من التسميم، وللعلم فقد سَجّلْت خلال دراستي لنسر الأذون أعشاشا بها الفرخ والأبوان نافقين بالمحمية
أما النوع الثاني من التسميم فهو يرجع لتغذية النسور على حيوانات كانت تعالج بعقاقير مضادة للالتهابات غير الستيرويدية (Non-steroidal Anti-inflammatory Drugs “NSAIDs”)، ومن أهمها عقار يعرف بالديكلوفيناك (Diclofenac)، وهو يستخدم كمضاد للالتهابات ومسكن وخافض للحرارة، وكذلك لعلاج مجموعة متنوعة من الحالات الالتهابية والمؤلمة، لكن الدراسات المخبرية خلال العقدين الماضيين أكدت تأثير هذا العقار ومضادات الالتهاب غير الستيرويدية وسُمْيتها على النسور وطيور أخرى تتغذى على جيف الحيوانات النافقة مثل العقبان وخاصة عقاب السهول المهدد بالانقراض، فعندما تتغذى هذه النسور والطيور المترممة على جثث حيوانات عولجت بهذا الدواء قبل نفوقها فإنه يسبب لها فشلا كلويا (Kidney Failure) والمرتبط بالنقرس الحشوي الشامل (Extensive visceral gout)، مما يؤدي لموتها خلال يوم إلى يومين متسممة. وعلى فكرة يا أبو ناصر فإن هذا العقار يُعْزَى له سبب نفوق النسور في القارة الهندية والتي تناقص بشكل كبير وصل إلى 97%، كذلك أكدت دراسة حديثة نشرت هذا العام 2021م بأن هذا العقار هو سبب نفوق النسر الأسود بإسبانيا، وعزت إلى أنه أحد أسباب تناقص النسور بدُول الاتحاد الأوربي، كذلك النسور بأفريقيا، أدى هذا التناقص بالأعداد إلى دخول عدد من أنواع النسور في العالم القديم لقوائم الأنواع المهددة بالانقراض.
وأزيدك من الشعر بيتا، فالدراسات التي أجريت على هذا الموضوع أشارت إلى أنه بعد حقن الحيوان بجرعة من عقار الديكلوفيناك، عثر على أعلى التركيزات للعقار في الدهون والأمعاء والكلى والكبد، ويمكن أن يتسبب هذا العقار بنفوق أعداد كبيرة من النسور إذا تغذت على حيوان عولج بالديكلوفيناك ونفق خلال فترة تتراوح بين 33-59 ساعة بعد إعطاء آخر جرعة من العقار، حيث يبقى تركيزه في الأنسجة خاصة التي يتراكم فيها الدواء مثل الكلى والكبد والدهون والأمعاء، ويقدر أحد الباحثين أن الحيوانات المعالجة بهذا العقار تكون آمنة بعد أربعة أيام، لكن كما تعلم يا أبو ناصر أن النسور والطيور المُترممة الأخرى تتغذى على الجيفة في الثلاثة الأيام الأولى من نفوقها وهي طرية مما يعني أن إصابتها بالتسمم بالعقار عالية.
هنا جاء صوت أخي فارع في حزن شديد... والله كلامك يا أبو فيصل ما يبشر بالخير والنسور عندنا راحت فيها، فأنت تعرف أن هذا الدواء يصرف من غير وصفة طبية ويستخدم بشكل كبير بين أصحاب الماشية، ويا خوفي يكون تناقص النسور عندنا من هذا العقار.كنت أتوقع هذا الرد منك يا أبو ناصر لكن- الحمد لله- العلم يقدم لنا حلولاً فهناك دراسات علمية تشير إلى أن هناك عقاقير مضادة للالتهابات غير الستيرويدية آمنة على النسور والطيور الأخرى مثل عقار ميلوكسيكم (Meloxicom)، وهناك نوع آخر يعرف بحمض تولفيناميك (Tolfenamic Acid)، ولازالت الدراسات جارية للتعرف على المجموعات الآمنة على الطيور بشكل عام والنسور بشكل خاص.وأبشرك أخي فارع فإدارة مركز التنمية لحماية الحياة الفطرية مُهْتَمة بهذا الموضوع وتعمل مع فرع الزراعة بالوزارة لتطبيق قرارات الاتفاقيات الدولية والتي وقعتها المملكة بخصوص هذا العقار وتأثيراته منها اتفاقية المحافظة على الأنواع المهاجرة (Species Migratory the of Convention “CMS”)، ومذكرة التفاهم للمحافظة على الطيور الجوارح المهاجرة بين أفريقيا وأوروبا وآسيا (Memorandum of Understanding for the Conservation of Migratory Birds of Prey in Eurasia and Africa)، والحقيقة يا أبو ناصر أنا متفائل فهناك جهود عالمية ووطنية نرى ثمارها الآن، ودُول عدة منعت هذا الدواء من الاستخدام البيطري وآخرها سلطنة عمان، وذلك للحفاظ على النسور ودورها في التوازن البيئي.
ومن التسمم غير المباشر الذي يمكن أن يصيب النسور والجوارح المترممة هو: التسمم بالمبيدات الحشرية وهذا للأسف سجلت بحوث علمية بالمملكة على تأثر النسر الأسمر ونسر الأذون بعد رش المبيدات بالمنطقة، كما تم تسجيل ذلك حول محمية الإمام بعد رش المبيدات للقضاء على الجراد. أما النوع الرابع من التسمم غير المباشر عُرِف في مناطق كثيرة من العالم ويعرف بالتسمم بطلقات الرصاص، وهذا ناتج من إصابة الحيوان البري بطلقات من الرصاص لكنه هرب ومات في منطقة بعيدة فتأتي النسور وتتغذى على الجيفة الملوثة بالرصاص، صحيح أن هذا التسميم لم يسجل في النسور بالمملكة لكنها سجلت في الصقور، حيث ذكر بحث صادر من مستشفى الصقور بالرياض أن نسبة كبيرة من الصقور مصابة بتسمم بمادة الرصاص، وهذا يرجع لتغذيتها على طيور أو حيوانات صِيدَتْ بواسطة طلقات رصاص انتشرت داخل الجسم.
ومن المخاطر الأخرى على النسور والتي سُجّلَ تأْثِيرها بها: التصادم مع أسلاك الكهرباء لخطوط الضغط العالي، والتكهرب بأعمدة وأسلاك الكهرباء لخطوط الضغط المتوسط، وأود أن أشير أن تكهرب النسور والجوارح خطر منتشر في أنحاء العالم، فالتصادم مع أسلاك خطوط الضغط العالي سُجِّلَ في محمية الإمام سعود بن عبد العزيز فقد نفقت أعداد من نسر الأذون، كذلك النسر المصري الذي سجل تكهربه في معظم مناطق انتشاره.
ومن المخاطر الأخرى التي تواجهها النسور تدهور البيئات المناسبة لتكاثرها، هنا قاطعني أبو ناصر ليسأل هل يمكن لحرارة الأجواء دور في نفوق الفراخ بالعش، والحقيقة ليس لدي إجابة لكن معروف أن التغيرات المناخية لها تأثير على الطيور وفراخها، وإن كانت النسور بالمحمية أظهرت تكيفات سلوكية وفسيولوجية لتقاوم هذه الدرجات العالية، لكن نحتاج لدراسات أكثر فموضوع ارتفاع درجات الحرارة نتيجة التغيرات المناخية هو موضوع الساعة يستحق الدراسة، ونسر الأذون يعتبر مادة جيدة للدراسة لفهم تأثير التغيرات المناخية على النسور.
النسور بالمملكة العربية السعودية
لا أدري كم من الوقت مضى ونحن نتحدث، وأحببت أن أغير الأجواء فقد بدأ على أخي أبو ناصر التأثر جراء ما يحدث للنسور، فقلت له أتعلم أخي فارع إن في المملكة تم تسجيل ستة أنواع من النسور، منها أربعة تتكاثر بالمملكة هي: نسر الأذون (Lappet-faced Vulture) وهذا بالطبع تعرفه جيداً فهو ينتشر بوسط المملكة وهو الوحيد الذي يبني أعشاشه على الأشجار، والثاني يعرف بالنسر الأسمر (Griffon Vulture) ويبني أعشاشه بمستعمرات بالمنحدرات الجبلية على امتداد جبال السروات وجبال أجا وسلمى وجبال طويق، أما الثالث فهو النسر المصري (Egyptian Vulture) وهو من الأنواع التي قلت أعداده بشكل كبير حتى المجموعة الموجودة بجزر فرسان تناقصت أعدادها بشكل واضح، أما النوع الأخير والذي سجل تكاثره بالمملكة فهو النسر الملتحي (Bearded Vulture) وهذا يشتهر بتغذيته على العظام بشكل أساسي، فهو لم يشاهد منذ أكثر من ثلاثة عقود وربما اختفى كطائر معشش بالمملكة. أما الاثنان الآخران فهما مهاجران أحدهما يأتي من الشمال (أوروبا ووسط آسيا) ويعرف بالنسر الأسود (Cinereous Vulture)، وهو يقضي الشتاء بالمملكة، أما الثاني فهو نسر روبيل الأسمر (Rüppell’s Vulture) وهو من النسور النادرة مشاهدتها ويصل من أفريقيا ولم يتأكد من تسجيله إلا قبل سنتين في جنوب المملكة.
قاطعني أبو ناصر طيب كيف وضع هذه النسور هل هي مهددة بالانقراض مثل نسر الأذون، والحقيقة ليست الأنواع الأخرى أحسن حظاً من نسر الأذون فللأسف الشديد فكل النسور المتكاثرة بالمملكة مسجلة ضمن قائمة الأنواع المهددة بالانقراض على المستوى الإقليمي، أما على المستوى العالمي فثلاثة منها ضمن قائمة الأنواع المهددة بالانقراض وهي: نسر الأذون والنسر المصري ونسر روبيل الأسمر، واثنان ضمن قائمة القريبة من التهديد بالانقراض وهما النسر الأسود والنسر الملتحي، أما النسر الأسمر فهو غير مهدد بالانقراض لكن أعداده في تناقص.
ختمت حديثي مع أخي أبو ناصر بالقول إنَّ النسور في العالم بشكل عام وفي المملكة بشكل خاص تناقص أعدادها بشكل كبير حتى دخلت أنواع منها قائمة الأنواع المهددة بالانقراض، وأنواع أخرى تعدت ذلك لتقترب من حافة دوامة الانقراض والتي يصعب إنقاذها لو دخلت في هذه الدوامة، وما تقومون به أنتم وزملاؤكم بالمركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية لهو شرفٌ وريادة وإن شاء الله بجهودكم ودعم حكومتنا الرشيدة سنرى عودة لتحلّْق النسور في سماء الوطن.
* عضو هيئة التدريس بجامعة الطائف
* عضو مجلس إدارة المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية
* عضو اللجنة العلمية الاستشارية لمذكرة التفاهم للمحافظة على الطيور الجوارح المهاجرة بين آسيا وأفريقيا وأوروبا