- 1
عانت (إدارة الفعل الثقافي) في بلادنا على امتداد نصف قرن من مشكلتين رئيستين:
- أولاهما: التبعية أو عدم الاستقلال؛ إذ كانت تابعة على مدى ثلاثين عاماً للرئاسة العامة لرعاية الشباب (1974 – 2003م)، ثم على مدى ثلاثة عشر عاماً لوزارة الإعلام (2003 – 2016م)، وقد خلّفت هذه التبعية - على المستوى الإداري - آثاراً سلبية، لا أظنها تخفى على أحدٍ من المثقفين والراصدين.
- وثانيتهما: التشتّت، وأقصد به توزّعَ الفعل الثقافي على أكثر من جهة حكومية، وعدم وجود مظلة إدارية واحدة مسؤولة أو راعية للفعل الثقافي، وقد حال هذا التشتّت دون صياغة إستراتيجية شاملة وموحّدة للفعل الثقافي، كما كان سبباً - من بين أسباب أخرى - في إضعاف بعض القطاعات الثقافية وتعطيل بعضها الآخر.
لقد كان هذا حال إدارتنا الثقافية قبل الإعلان عن رؤية المملكة 2030 (إذا ما أردنا التوصيف العام)، وبسببها قلّ إسهامنا في الفعل الثقافي العربي وإن تحققت لنا مكتسباتٌ هنا أو هناك، وبسببها ظلّت إدارتنا الثقافية على هامش التنمية، تعمل وتتفاعل وتنمو، لكنْ ببطء شديد، وفي حدود ما تناله من المسؤولية الاجتماعية التي يُنْعِمُ بها القطاعان: العام والخاص.
- 2 -
في أبريل من عام 2016م أقرّت الدولة رؤية المملكة 2030، وعبّرت من خلالها عن تحوّل كبير على مستوى رؤيتها للفعل الثقافي؛ إذ تضمّنت الرؤية في تفاصيلها دمْجَ الفعل الثقافي في التنمية، بل جعلته أحدَ المسارات الفاعلة فيها، وتبعاً لذلك أُنْشِئت الهيئة العامة للثقافة في مايو من عام 2016م (أي: بعد أسبوعين فقط من إعلان الرؤية)، ولم تمضِ سنتان حتى قرّرت الدولة الانتقالَ بالفعل الثقافي إلى أعلى صيغة إدارية، فصدر أمرٌ ملكي في يونيو من عام 2018م بإنشاء وزارة للثقافة؛ ليجعلنا أمام دليل مادي أكبر على اهتمام الدولة بالفعل الثقافي بوصفه فاعلاً رئيساً في التنمية، وليمهّد الطريق أمام الإدارة الثقافية تحديداً إلى حيث تكون المساهمة الإجرائية المباشرة في تحقيق الأهداف التنموية الجديدة.
لقد أنهى هذا الأمر الملكي حالة التبعية التي أثقلت إدارة الفعل الثقافي على مدى أربعة عقود، وبإشارته إلى «نقل المهام والمسؤوليات المتعلقة بنشاط الثقافة إلى هذه الوزارة» أنهى أيضاً حالة التشتّت التي أجهضت جميع المحاولات الرامية إلى إنعاش الفعل الثقافي خلال العقود السابقة.
- 3 -
ومنذ أنشئت وزارة الثقافة إلى يومنا هذا وهي تبدو للمتابع مسكونة بهمّ واحد، هو التأسيس الإداري السليم للفعل الثقافي، واستيفاء متطلباته الضامنة لاستقراره واستدامته، وقد حقّقت - خلال السنوات الثلاث الماضية - مكتسبات مهمة لصالح الإدارة الثقافية بوجهٍ خاص، وللثقافة بوجهٍ عام، يأتي في مقدمتها:
- صدور قرار مجلس الوزراء في فبراير من عام 2020م بإنشاء إحدى عشرة هيئة ثقافية، تغطي ثلاثة عشر قطاعاً ثقافياً.
- بناء إطار حوكمة قادر على تحرير القرار في الإدارة الثقافية من سلطة الرأي الواحد، ويبدو هذا واضحاً في استقلالية الهيئات الثقافية، وارتباطها بمجالس إدارية ذات صلاحيات واسعة، وفي تأطير عملها بترتيبات تنظيمية صادرة عن مجلس الوزراء، وغير مسبوقة في الإدارة الثقافية المحلية، بل يمكن عدّها استثناءً من سياق الإدارة الثقافية العربية.
- رسم إستراتيجية وطنية للثقافة (دُشّنت في مارس من عام 2019م)، ثم العمل على بناء إستراتيجية خاصة لكل قطاعٍ ثقافي، وقد أعلنت الوزارة خلال الأشهر الماضية اعتماد عدد من الإستراتيجيات القطاعية، كـ (الأدب والنشر والترجمة)، و(المكتبات)، و(المسرح والفنون الأدائية)، وغيرها.
- الاهتمام بالقطاع غير الربحي، وتأسيسه على أرضية صلبة تتمتّع بالكفاية الإدارية والاستقرار المالي، والقدرة على التحرك ثقافياً في الداخل والخارج. وقد كوّنت الوزارة لهذا المسار إستراتيجية خاصة، سُبقت بدراسات تحليلية متعددة للقطاع الثقافي غير الربحي في عدد من الدول، وتضمّن تصريح وزير الثقافة بمناسبة اعتماد إستراتيجية القطاع غير الربحي الإشارةَ إلى أنّ «الثقافة في جوهرها فعلٌ أهلي منتظم بتشريعٍ حكومي، ومدعوم من القطاع الخاص»، وهذه الإشارة تكفي للتدليل على التغير الكبير الذي طرأ على مفهوم الإدارة الثقافية خاصة، وعلى رؤيتنا للفعل الثقافي بوجهٍ عام.
- 4 -
هذه الصورة المكثفة تؤكد أنّ الوزارة اختارت البداية من المنطقة الأصعب، ومراكمة الجهد في مرحلة التأسيس لوضع القاعدة التي كان يفتقر إليها الفعل الثقافي المحلي والعربي، وهو الأساس الإداري المتين بجميع متطلباته. ومن يراجع اليوم مواد الإعلان عن الإستراتيجية الوطنية للثقافة وإستراتيجيات الهيئات، يجد نفسه أمام إطار واضح لخدمة الفعل الثقافي، بأهداف محددة، وهياكل إدارية جديدة ومنظّمة.
إنه مدخلٌ صعبٌ ومعقّد بلا شك، يتطلب الكثير والكثير من الوقت والجهد، لكنّه سيضمن لنا وضعَ الأسس القوية، ومدّ القنوات المستديمة، وأحسبه المدخلَ الأفضل للمستقبل إذا استحضرنا دمج الثقافة بالتنمية، وتهيئتها لتكون فاعلة على مستويات أكبر، ذات بعد سياسي واقتصادي وليس اجتماعياً وحسب.
الإدارة الثقافية الواعية والقادرة والمنظمة هي ما ينقص الفعل الثقافي الذي تتطلبه هذه المرحلة، في العالم كلّه وليس في بلادنا وحسب، وآمل أن نرى أثرها قريباً في أهداف كبيرة تليق بطموح الرؤية، وتطلعات المثقفين.
** **
- د. خالد الرفاعي