سبقَ أن وفَّينا الحديثَ في الفراغ الإملائيّ تأسيسًا وتأصيلًا وبيانًا وتعريفًا في العدد السَّابق من هذه المجلَّة المعطاء، بوصفه أثرًا من آثار تِقْنِيَة الحاسوب الحديثة في علم الإملاء وقواعده، وانتهينا فيه إلى أنَّه (الشُّغورُ المِطبَعيُّ المتروكُ بينَ آحادِ النَّصِّ العربيّ) عِلميًّا، و(الضَّغطة الواحدة على زرِّ المسافة، أو المسطرة (space) في لوحة المفاتيح (keyboard) بين آحاد النَّص من الكلمات وعلامات التَّرقيم) عَمليًّا. وهأنذا أسطِّر تطبيقًا من تطبيقاته التي اختلف فيها علماء الإملاء في العصر الحديث، وهي مسألة: أيُتركُ بين جزأي المركَّب الإضافيّ فراغٌ أم لا؟ فارتأينا أن نسبر أغوارَها باستقراء آراء العلماء وأقوالهم، ونجمع مسائلَها وما تفرَّق منها في بُطون الكُتب، ونُبوِّبَ مذاهبَها، ونُورِدَ أدلَّتها وحُجَجَها عرضًا وتفصيلًا وتحليلًا ومناقشةً، لننتهيَ من ذلك كلِّه إلى ما نراه راجحًا من تلك الأقوال والآراء، وما هو قمِنٌ بالأخذ به، والسَّيرورة عليه في كتاباتنا. واللهَ نسألُ أن يكتبَ لذلك النفعَ والقبولَ.
المسألة الأولى: مذاهبه
أولًا- المانعون
تشيعُ نسبةُ القول بمنع الفراغ بين المتضايفَينِ إلى علماء الحديث الذينَ ألقَوا البذرةَ الأولى لمسألة القول بمنع الفصلِ بين جزأي المركَّب الإضافي تحريمًا أو كراهةً أو وجوبًا أو أدبًا. وإن كان له صدًى عند غيرهم ،كقول النَّحَّاسُ (ت338هـ): «فمن حُسن تقدير الكاتب أن يكون المضافُ والمضافُ إليه في سطرٍ واحدٍ لا يُفرق بينهما، نحو: دار عمرٍو، وكذا أعزَّه اللهُ، لا يقطعه، وكذا أحدَ عشرَ، لأنَّهما بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ»(1).
قال الخطيبُ البغداديُّ (ت463هـ): «أَخْبَرَنِي عَبدُ العَزِيزِ بنُ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ لَنَا أَبُو عَبدِ اللَّهِ بنُ بَطَّةَ، وَفِي الكُتَّابِ مَنْ يَكتُبُ عَبدُ اللَّهِ فَيَكتُبُ عَبدُ فِي آخِرِ السَّطرِ وَيَكتُبُ اللَّهِ بنُ فُلَانٍ فِي أَوَّلِ السَّطرِ الآخَرِ، أَو عَبدُ فِي سَطرٍ وَ الرَّحمَنِ فِي سَطرٍ، وَيَكتُبُ بَعدَهُ ابنُ، وَهَذَا كُلُّهُ غَلَطٌ قَبِيحٌ، فَيَجِبُ عَلَى الكَاتِبِ أَن يَتَوَقَّاهُ وَيَتَأَمَّلَهُ وَيَتَحَفَّظَ مِنهُ. قَالَ أَبُو بَكرٍ: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو عَبدِ اللَّهِ صَحِيحٌ، فَيَجِبُ اجتِنَابُهُ، وَمِمَّا أَكرَهُهُ أَيضًا أَن يُكتَبَ: قَالَ رَسُولُ فِي آخِرِ السَّطرِ، وَيُكتَبَ فِي أَوَّلِ السَّطرِ الَّذِي يَلِيهِ: اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَنبَغِي التَّحَفُّظُ مِن ذَلِكَ»(2).
وقال النَّوويُّ (ت676هـ): «ويُكرَه في مثل عبد الله، وعبد الرَّحمن بن فلان كتابةُ عبد آخرَ السَّطر واسم الله مع ابن فلان أوَّلَ الآخَر، وكذا يُكره رسول آخرَه والله صلى الله عليه وسلَّم أوَّله، وكذا ما أشبهَه»(3). قال أبو الفضل العراقيّ:
وكرِهوا فَصْلَ مُضافِ اسمِ اللهْ
منهُ بِسَطْرٍ إنْ يُنافِ ما تَلاهْ(4)
أي: «يكْرَهُ أن يَفصِلَ في الخطِّ بينَ ما أُضيفَ إلى اسمِ اللهِ تعالى وبينَ اسمِ اللهِ في مثلِ عبدِ اللهِ بنِ فلانٍ وعبدِ الرحمنِ بنِ فلانٍ، وغيرِ ذلكَ من الأسماءِ فيكتبُ عبدَ في آخرِ سطرٍ ويكتُبُ في السَّطرِ الآخرِ اسمَ اللهِ، وبقيَّةَ النَّسبِ»(5).
وبمثل ذلك قال ابنُ دقيق العيد (ت702هـ)(6)، وابنُ الـمُلقن (ت804هـ)(7)، والسُّيوطيّ (ت911هـ)(8)، وأبو شُهبة (ت1403هـ)(9).
وقد تبيَّن لنا بعد النَّظر والفحص في نُصوص أهلِ الحديث أنَّ الرُّكون إلى أقوالهم في حذفِ الفراغ بين المتضايفَينِ لا ينهضُ دليلًا لغيرهم، ولا يستقيمُ الاستدلالُ به في غيرِ ما رَمَوا إليه؛ لما يأتي:
1. إنَّ المنعُ عند أهل الحديث هو الفصل الذي يَنزاحُ معه المضافُ إليه إلى بداية السَّطر الذي يليه، أو فيما إذا كان شيءٌ من هذه الكلمات آخرَ الصَّفحة اليُسرى والكلمة الأخرى وما ينافي معناها في أوَّل اليُمنى؛ فإنَّ النَّاظرَ إذا رآه ربَّما لم يُقلِّب الورقةَ وظنَّ أنَّ ذلك أوَّل الكلام(10). ولا يَعنون بهذا المنعِ الفراغَ الذي نَعنيه هنا، فيُفهَم من كلامهم أنَّه لا مانعَ البتةَ مِن الفراغ الذي هو مدارُ بحثنا، والذي أفرزته التِّقنية الحديثة بما وفَّرتْه من برامجَ لتحرير النُّصوص، والمقدَّر بضغطةٍ واحدة على زِرِّ الـمِسطرة (space)؛ لأنَّهم لا يقصدُون الفصل المطلق، وإنَّما يقصدون الفصلَ الذي يقع به المحظورُ المشارُ إليه آنفًا.
2. إنَّ المنعَ أو الكراهةَ لا يختصُّ بأسماء الله، بل الحكمُ كذلك في أسماء النَّبيّ والصَّحابة، وفي كلِّ ما كان فَصْلُ أجزائه إلى سطرينِ مُوهِمً ومُستَبشَعًا حتى لو وقع ذلك في غير المضاف والمضاف إليه(11). قال أبو البركات العزِّيّ (ت984هـ): «بل صرَّح بعضُهم بالكراهة في فصل نحو (أحدَ عشرَ) لكونها بمنزلة اسم واحد، وكَرِهُوا جعلَ بعضِ الكلمةِ في آخِر سطرٍ وبعضها في أوَّل آخِر»(12).
3. إنَّ المنعَ مُقيَّدٌ بأن يكون بعد المضاف إليه ما ينافي المقصود أو لا يُلائمه، وإلَّا فلا، مادام التَّركيبُ غيرَ مُوهِم الدَّلالةِ، ولا قبيحِ الصُّورة. قال العراقيُّ (ت806هـ): « أَمَّا إذا لم يكُن في شيءٍ من ذلكَ بعدَ اسمِ اللهِ تعالى، أو اسمِ نبيِّهِ، أو اسمِ الصحابيِّ ما ينافيهِ، بأَن يكونَ الاسمُ آخرَ الكتابِ، أو آخرَ الحديثِ، ونحوَ ذلكَ، أو يكونَ بَعدَهُ شيءٌ ملائمٌ لهُ، غيرُ منافٍ لهِ، فلا بأسَ بالفَصلِ، نحوَ قولهِ في آخرِ البخاريِّ: سبحانَ اللهِ العظيمِ، فإنَّهُ إذا فَصَلَ بينَ المضافِ، والمضافِ إليهِ، كانَ أوَّلُ السطرِ اللهِ العظيمِ، ولا منافاةَ في ذلكَ»(13). وقال السُّيوطيّ:
بِدَارَةٍ، وَعِنْدَ عَرْضٍ تُعْجَمُ
وَكَرِهُوا فَصْلَ مُضَافٍ يُوهِمُ(14)
ثانيًا- الـمُـــؤيِّدون
يُعَدُّ القولُ بترك الفراغ بين جزأي المركَّب الإضافي مذهبَ عُلماءِ الإملاء والرَّسم، والاتِّجاهَ الذي جنحوا إليه في حديثهم عمَّا سمَّوه في كتُبهم بـــــــ «الفصل والوصل»؛ إذ يكادُ ينعقدُ إجماعُهم على فصلِ الـمُضاف مِن الـمُضاف إليه في المركَّب الإضافي، وحذفِ المسافة بينهما سواءً أكان هذا المركَّب وصفًا أم علَمًا؛ لأنَّ الأصلَ فصلُ الكلمةِ من الكلمة. قال القلقشنديّ (ت821هـ): «... ويُستثنى من ذلك مواضعُ كُتِبت على خلاف الأصل: منها أن تكون الكلمتان كشيءٍ واحدٍ؛ وذلك في أربعة مواضع:
الموضع الأوّل- أن تكون الكلمتان قد ركّبتا تركيب مزج، مثل: بَعْلَبَكّ، ليدلَّ على أنَّ الترَّكيب الذي يعتبر فيه وصل الكلمة بالأخرى هو تركيب المزج، وهو أن يتَّحدَ مدلُول اللَّفظين، بخلاف ما إذا رُكِّبتا تركيب إسناد، نحو: زيد قائم، أو تركيب إضافة، نحو: غلام زيد، أو تركيب بناء لم يتَّحد فيه مدلول اللَّفظين، نحو: خمسةَ عشرَ، وصباحَ مساءَ، وبينَ بينَ، وحيصَ بيصَ، فإنَّ هذا كلَّه يُكتب مفصولًا لا تخلط فيه كلمةُ بأخرى»(15).
فنرى في هذا النَّصِّ أنَّ المركَّب الإضافيَّ استُثنِيَ من الأشياء التي يُوصَلُ بين جُزأيها؛ إبقاءً له على الأصل. وكان لهذه الأُصول والقواعد صداها لدى أغلبِ مَن كتبَ في الإملاء لاحقًا، إمَّا منطوقًا بالنَّصِّ على عدِّ المركَّب الإضافيّ ممَّا يُفصَلُ بين جزأيه، أو مفهومًا مِن حَصرِ ما خرجَ عن أصلهِ في هذا الباب(16). فَعُدَّ أنَّ «كتابة بعضِ النَّاسِ (عبدالله) ونحوه هكذا من غير فصلٍ بين الكلمتينِ خطأٌ فاحِشٌ, إذ حقُّ كُلِّ كلمةٍ أن تُكتَبَ مفصولةً عن الأُخرى نحو (عبد الله)»(17).
ثالثًا- الـمجيزون
يرى مجمعُ اللُّغة العربيَّة على الشَّبكة العالميَّة بمكَّة المكرَّمة جوازَ الوجهين بشروطٍ، فقال في فتوًى له: «يردُ الاسمُ مركَّبًا مزجيًّا ويردُ مُركَّبًا إضافيًّا، أمَّا المزجيُّ فيُكتَبُ مُتَّصِلًا، مثل حَضَرمَوت وبَعلَبَكّ ومعديكرب وسيبويهِ، وأمَّا الـمُركَّبُ الإضافيُّ فهو مؤلَّفٌ مِن لفظين منفصلين: الـمُضاف والـمُضاف إليه، والأصل ُ في ذلك أن يُفصَل بين اللَّفظين فتُكتَب عبد الله كما تُكتَب رسول الله، وجار الله مثل جار المسجد، ولكن استحسنَ النَّاسُ اليومَ ضَمَّ الـمُضافِ والـمُضافِ إليه إن كان علَمًا بشرط أن ينتهي الـمُضاف بحرفٍ لا يُوصَلُ بما بعدَه؛ تجنُّبًا للفصل بين جُزأي العَلَم بسبب تدوير الحاسوب للكلماتِ، فيكتبون عبدالله وجارالله، ولكنَّهم لا يَضمُّون زين الدِّين وجمال الدِّين، وخلاصةُ القول أنَّ الأصلَ الفصلُ بين عبد ولفظ الجلالة (عبد الله)، ولا غضاضةَ في الوصل (عبدالله)»(18).
يتبيَّن لنا من هذه الفتوى أنَّ المجمعَ وإنْ أجاز الفراغ بين جُزأي المركَّب الإضافي مُستنِدًا في ذلك إلى الاستحسان, فإنَّه أقرَّ بأنَّ الأصلَ هو الفصلُ؛ لأنَّه مؤلَّفٌ من لفظينِ مُنفصلين، وما كان كذلك فحقُّه أن يقعَ مفصولًا في الكتابة ممَّا قبله وما بعدَه(19). لأنَّ «كلَّ كلمةٍ تدُلُّ على معنًى غيرِ معنى الكلمة الأُخرى، فكما أنَّ المعنَيَينِ متميِّزان فكذلك اللَّفظ الـمُعبِّر عنهما يكون متميِّزًا، وكذلك الخطُّ النائب عن اللَّفظ يكون متميِّزًا بفصله عن غيره»(20).
فضلًا عن اشتراطه لكَتْبِ الوصل بأن يكون المركَّبُ علَمًا، وألَّا ينتهي المضاف بحرفٍ من حروف الوصل، ومقيَّدًا بتجنُّب الفصل بين جُزأيه بسبب تدوير الحاسوب؛ فيجعلُ القولَ بالفراغ بين جزأي المركَّب الإضافيّ أصلًا، وما عداه فرعًا خارجًا عن الأصلِ الذي ينبغي أن يُجنَحَ إليه، ويُعتَمَد عليه.
رابعًا- الـمُفصِّلون
يبدو أنَّ الأستاذ ا لدُّكتور سُليمان بن عبد العزيز العُيونيّ ممَّن يذهب إلى التَّفصيل في كتابة المركَّب الإضافي، مُجيزًا الفراغَ بين الجزأين فيما كان علَمًا، ومانِعًا إيَّاه بين جزأي ما لم يكن علَمًا، فقال: «الواجب في الأسماء المعبَّدة ألَّا يوصل بينها. أمَّا وضع مسافةٍ فأمرٌ استحساني. وأرى ألَّا توضع في الأعلام: عبدالله، وتوضع في غيرها: أمر الله». وقال أيضًا: «الأسماءُ الـمُعبَّدةُ لا تُكتَب متَّصِلةً؛ لأنَّها مُضافةٌ كعبد الله، لا مزجيَّةٌ كبعلبك. والأفضل عدم وضع مسافة (عبدالله)، لا (عبد الله)»(21).
ثمَّ أضاف -ردًّا على سائل استشكلَ كلامَه السَّابقَ ذكرُه- قائلًا: «الأفضلُ عدمُ وضعِ مسافةٍ بين (عبدالله) إذا كان اسمَ إنسانٍ، أمَّا إذا وصفًا(22) فتُوضعُ مسافةٌ، نحو: يا زيدُ أنتَ عبدُ الله وإليه تدعو»(23).
يظهر مِن كلامِه -حفظه الله- أنَّ حُجَّته في هذا التَّفصيل هو أمنُ اللَّبسِ والتَّفريقِ بينَ العَلَم وغيرِه من المركَّباتِ الإضافيَّة.
المسألة الثَّانية: أدلَّته
ارتأينا أن نقتصر على عرض أدلَّة القائلين بحذف الفراغ بين جزأي المتضايفَين ومناقشتها؛ لأنَّه قولٌ على خلاف الأصل؛ فتبيَّن لنا مِن استقراء مذاهبهم وآرائهم أنَّ الأدلةَ والحُجَجَ المنطوقة التي صرَّحوا بها، أو المفهومة التي استخلصناها من أقوالهم، والتي استندوا إليها منعًا أو جوازًا تنحصرُ في أربعٍ، هي:
الدَّليل الأوَّل: الاحتياط للمعنى والاحتراس عن الوهم
بنى علماءُ الحديثِ قولَهم في منع الفصل بين جزأي المركَّب الإضافي، المضاف والمضاف إليه أو ما يقوم مقامهما على هذا الدليل، الذي يُعدُّ دليلًا احتماليًّا؛ لأنَّه مبنيٌّ على ثلاث مُقدِّماتٍ، لا يتحقَّقُ إلا بتحقُّقها جميعًا:
1. وقوع المركَّب الإضافي في نهاية السَّطر.
2. انزياح المضاف إليه إلى بداية السَّطر الذي يليه.
3. ورود ما يُوهِم أو ينافي المقصود ويُفضي إلى فساد المعنى واختلاله بعد المضاف إليه فيما لو ابتُدِئ بأوَّل السَّطر الذي انزاح إليه المضاف إليه.
أمَّا وقوع المركَّب في نهاية السَّطر فنسبتُه (7,14 %) بناءً على أنَّ معدَّلَ كلمات السَّطر الواحد أربعَ عشرةَ كلمةً. أمَّا انزياح المضاف إليه إلى السَّطر التالي فتكون نسبتُه (50 %) من النِّسبة الأولى، أي: (3,55 %)؛ لأنَّه دائرٌ بين احتمالَي الانزياحِ وعدمه. ثم ورود ما يُوهِم أو يُنافي المعنى يكون بالنَّسبة الثانية عينِها، وعلى كلا الاحتمالين أيضًا، فنتحصَّلُ على أنَّ نسبةَ هذا الدَّليل هي (1,77 %) في عَضْدِ ما ذهبوا إليه. وهذه النِّسبةُ في معيار أُصول اللُّغة والنَّحو أقلُّ من النَّادر، بل رُبُعُ نسبةِ النَّادر؛ استنادًا إلى قول الإمام السُّيوطيّ: «فالعشرون بالنِّسبة إلى ثلاثةٍ وعشرينَ غالبُها، والخمسةَ عشرَ بالنِّسبةِ إليها كثيرٌ لا غالب والثَّلاثةُ قليلٌ، والواحد نادرٌ، فعُلِمَ بهذا مراتبُ ما يُقالُ فيه ذلك»(24).
وعند تمثيل هذه الأرقام رياضيًّا بالنِّسبة المئويَّة نحصل على ما يأتي:
الغالب: 86,9 %، والكثير: 65,2 %، والقليل: 13 %، والنَّادر: 4,3 %.
إذن الاستدلالُ على القول بعدم الفراغ بين المضاف والمضاف إليه استنادًا إلى دليل أهل الحديث مدفوعٌ بما يأتي:
1. استدلالٌ في غيرِ محلِّ النِّزاع؛ لأنَّ قولَ أهلِ الحديثِ بالمنع هو في الفصلِ الذي يتجزَّأ معه المركَّبُ إلى سطرَينِ، وليس في الفراغِ الذي نعنيه هنا، والذي يُقدَّرُ بمقدار حرفٍ واحدٍ، ويتحقَّقُ بضغطةٍ واحدة على زرِّ المسافة المسطرة (space). وبذلك يُعلَمُ أنَّ الاستدلال بدليل المحدِّثين استدلالٌ غير وجيهٍ، وإنزالٌ للدَّليل في غيرِ مناطه.
2. استدلالٌ بما يمكنُ فيه انتفاءُ المانع وتحقيقُ المطلوب؛ إذ وفَّر برنامجُ معالجةِ النُّصوص وتحريرها (Microsoft word) أمرًا تِقْنِيًّا يضمَنُ بقاءَ كلمتَينِ معًا في السَّطر نفسه من خلال ما يُسمَى بأمرِ المسافة غير المنقسمة (ctrl+shift+space)، فيُضغَطُ على زِرَّي: ctrl+shift)) ثم ضغط زِرِّ المسافة (space) في أثناء الضغط على الزِّرَّين الأوَّلينِ. فيمنعُ الانقسام، ويُجبِرُ على اتصال اللَّفظين وتلازمهما، محافظًا في الوقت نفسه على الفراغ بينهما. وبذلك ينتفي حكمُ القول بالوصل لانتفاء العلَّة؛ لأنَّ الحُكمَ يدورُ مع عِلَّته وجودًا وعدمًا؛ فالعلَّة متى وُجِدت وُجِد الحكمُ ومتى فُقِدت لم يثبت الحكم(25).
3. استدلالٌ في موضع الاحتمال، ولا يُحكَمُ بمخالفة الأصل بالاحتمال(26). وقد تقدَّم بيانُ الاحتمالِ في دليل المحدِّثِينَ الذي استند إليه مَن قال بعدم الفراغ بين المتضايفَينِ.
4. استدلالٌ بالقياس على النَّادر، الذي اختلفت فيه نظرةُ النُّحاة القُدماء، «فالأكثر على عدم جواز القياس عليه، أو استخلاص القواعد منه»(27). أمَّا المعاصرين فاتَّفقت كلمتُهم على استبعاد النَّادر من طرائق تيسير النَّحو(28) .
5. استدلالٌ بما هو خلافُ الأصل؛ إذ الأصل هو الفصل بين كلمةٍ وأخرى. ففي الرُّكون إليه مخالفةٌ لجملةٍ من القواعد الأُصوليَّة، منها:
• لا يُصارُ إلى خلاف الأصل إلَّا بدليل(29). ولا دليلَ هنا يُوجبُ مخالفةَ الأصل.
• لا يكفي في اللُّجوء إلى خلاف الأصل إلَّا السببُ القويُّ(30). ولا سببَ يقتضي أن يُخالَف به الأصل، فضلًا عن أن يكون قويًّا.
• لا يُحكَمُ بمخالفة الأصل بالاحتمال(31). وقد تقدَّم بيانُ الاحتمالِ في دليل المحدِّثِينَ الذي استند إليه مَن قال بعدم الفراغ بين المتضايفَينِ.
• كُلَّما أمكن المصيرُ إلى وفق الأصل لم يجُز المصير إلى خلافه(32). وقد بيَّنَّا أنَّه يمكن المصيرُ إلى وفق الأصل بما وفَّرته التَّقْنِيَة الحديثة من برامجَ تعمل على معالجة هذه الثَّغرات الطِباعيَّة من خلال ما يُسمَى بأمرِ المسافة غير المنقسمة (ctrl+shift+space)، التي لم تكن لتُعالَج في الكتابة الخطيَّة اليدويَّة.
• ما كان على خلاف الأصل يتقدَّر بقَدْرِ الحاجة(33). فما سوَّغَ لأهل الحديثِ منعَهم الفصلَ يومئذٍ لم يكن ليُسوِّغَ ذلك لأهلِ الإملاءِ اليومَ.
• القياس على ما خالفَ الأصل ممنوع(34).
6. استدلالٌ بخلاف قاعدة العبرة بالغالب؛ لأنَّ المعتدَّ به في الأحكام هو الغالب، ويُفهَمُ منه أنَّه متى وُجِدَ الغالبُ وُجِدَ الحُكمُ، ومتى فُقِدَ الغالبُ عُدِمَ الحُكمُ.
الدَّليل الثَّاني: أمن اللَّبس والتَّفريق بين العَلَم والوصف
لا شكَّ في أنَّ العربيَّة تهتمُّ اهتمامًا بالغًا بإيصال المعنى المراد بوضوحٍ تامٍّ وإجلاءٍ بيِّن من غير أن تشوبَهُ شائبةُ اللَّبس أو الغُموض؛ لأنَّ اللُّغةَ الـمُلبِسةَ لا تصلحُ أن تكون وسيلةً للتفاهم والتخاطب(35)، ولكن يتراءى لنا أنَّ هذا التَّعليل ناقصٌّ، لاقتصاره على الناحيَّة الكتابيَّة دون الصَّوتيَّة؛ إذ لا أثرَ للفراغ وعدمه من النَّاحية الصوتيَّة، فكيف يُفرَّقُ بينهما في الكلام المنطوق؟! لأنَّ النَّاس يسمعون أكثرَ ممَّا يقرؤُون، فمن هنا نجد أنْ لا مُحوِجَ إلى أن يكونَ لهذا المركَّب صورتانِ في الرَّسم الإملائيّ؛ للتَّفريق بين العلَم والوصف، ما دام ثمَّةَ مندوحةٌ عنه بقرائنَ كثيرةٍ تجتمع مُتظافرةً لتحقيق أمن اللبس في العربية(36). فلا نرى «ضرورة إلى المغايرة؛ لأنَّ قرينة التَّكلُّم أو القرينة الذِّهنيَّة أو اللَّفظيَّة تُغني عن ذلك على الرَّغم من أنَّ قرينة الرَّسم الإملائيّ أوضحُ وأظهرُ»(37).
الدَّليل الثَّالث: الاستحسان عند الناس
يُعدُّ الاستحسانُ من الأدلَّة المختلف عليها وفي حُجِّيَّتها قديمًا وحديثًا؛ لأنَّه وصفٌ وتسويغٌ لما خالفَ أُصول اللُّغة(38). فلا نرى صحَّةَ تقويضِ أصلٍ لُغويٍّ أجمعَ عليه علماءُ الإملاء بأمرٍ لم يكن موضعَ وفاقٍ بين أهلِ اللُّغة.
الدَّليل الرَّابع: إنزال المركَّب مَنزلة الاسم الواحد
لا نُسلِّم أنَّ المركَّبَ من المضاف والمضاف إليه كاسم واحدٍ؛ لأنَّه مُعرَبٌ، بل كلُّ واحدٍ منهما على اسمٍ على الكمال؛ لذا لم يجعله القلقشنديّ ممَّا كانت فيه الكلمتان كشيءٍ واحد، بل قصرَ ذلك على المركَّب المزجيِّ، فقال وهو يُعدِّد المواضعَ التي تكون فيها الكلمتان كشيءٍ واحد: «... وذلك في أربعة مواضع:
الموضع الأوّل- أن تكون الكلمتان قد ركّبتا تركيب مزج، مثل: بعلبك، ليدلَّ على أنَّ الترَّكيب الذي يعتبر فيه وصل الكلمة بالأخرى هو تركيب المزج، وهو أن يتَّحدَ مدلُول اللَّفظين، بخلاف ما إذا رُكِّبتا تركيب إسناد، نحو: زيد قائم، أو تركيب إضافة، نحو: غلام زيد، أو تركيب بناء لم يتَّحد فيه مدلول اللَّفظين، نحو: خمسة عشر، وصباح مساء، وبين بين، وحيص بيص، فإنَّ هذا كلَّه يُكتب مفصولًا لا تخلط فيه كلمةُ بأخرى»(39).
فضلًا عن أنَّه يقتضي أن تخضعَ الهمزةُ فيما كان مَهمزًا منه لأحكام الهمزة المتوسِّطة التي تستدعي كتابتَها بحسب قاعدة الأقوى الإملائي؛ فيلزمُ منها صورٌ كتابيَّة غير صحيحة.
المسألة الثَّالثة: حكمه
ظهر لنا من خلال عرض آراء العلماء وأدلَّتهم في هذه المسألةَ أنَّ الحكمَ في مسألة الفراغ بين جزأي المركَّب الإضافي وصفًا كان أو علمًا هو وجوب ترك فراغٍ بينهما، مُستنِدينَ في ذلك إلى جملةٍ من الأُسس والأحكام اللُّغويَّة التي لا بُدَّ من توافرها لتكون سليمةً(40).
أولًا: الشُّمول والمعالجة الشَّاملة لكلِّ جزئيات الباب المنشود. فنجد أنَّ اعتمادَ القول بالفراغ يجعل منه شمول الحكم وسريانه على جميع أشكال المركَّب الإضافي، سواءٌ أكان المضافُ فيه مختومًا بحرفٍ من حروف الفصل أم لا. فلا يتجزَّأ تطبيقُ القاعدة على بعض الأشكال دون بعضٍ، كما لو اعتُمِدَ القول بعدم الفراغ، نحو: صلاح الدِّين، وعبدالله؛ ليُحقِّق بذلك غرضًا تعليمًّا في التَّخفيف من الخلافات التي لا طائلَ منها، وغرضًا تربويًّا في تسهيل القواعد وتيسيرها على النَّاشئ ة والمتعلمين.
ثانيًا: التَّماسك بين الأجزاء المختلفة وعدم التناقض، والابتعاد عن الازدواجيَّة والتشويش الذي يتأتَّى من كثرة الأوجه وتعدُّد الأحكام، مثل الذي نجده في كتابة المركَّب الإضافيّ عند القائلين بعدم الفراغ، نحو: عبدالله وصفًا، وعبد الله علَمًا. ونحو: عزّالدِّين وصفًا، وعزّ الدِّين علَمًا!
ثالثًا: الاقتصاد في الوقت والجهد: أي: كلَّما كانت القواعد المستعملة في مسألةٍ معيَّنةٍ قليلةً كانت أكثرَ توفيرًا في الوقت والجهد ممَّا لو جعلنا للوصف قاعدةً وللعَلَمِ قاعدةً أُخرى.
رابعًا: الاطِّراد والتَّتابعُ على وتيرة واحدة. فيُكتَب المركَّبُ الإضافي، وصفًا أو علمًا، أو مختومًا مُضافُه بحرف الفصل، أو غير مختوم مُضافه بحرف الفصل، بترك فراغٍ بين جُزأيه فتكون بذلك القاعدة مُطَّردةً.
خامسًا: البراءةُ من القوادح اللَّفظيَّة أو المعنويَّة، والخُلوُّ من اللَّوازم الباطلة، إذ يترتَّب على القول بعدم الفراغ بين جزأي المركَّب الإضافيّ جملةٌ من اللَّوازم الباطلة، وبطلان اللَّازم دليلٌ على بطلان الملزوم. منها:
1. توالي الأمثال في الخطّ، نحو: عطاالله، أبا أحمد، وأبا إحسان، وذا القرنين، وأبو ودود.
2. التقاء ساكنين في غير موضعه، نحو: ذُوالْقرنين، وذوالْفقار، وذوالْنُّون. فإمَّا أن يُبقَى عليه دون التَّخلُّص منه، فيقتضي التقاءَ ساكنينِ في غير موضعه الذي حصره علماءُ اللُّغة فيه(41). أو أن يُجنَحَ إلى التخلُّص منه بحذف حروف المدِّ، فيُكتب: ذُلقرنين، وذَلقرنين، وذيلقرنين. ومثله: ذُلفِقار، وذَلفِقار، وذِلفِقار. فيكونَ رسمًا بِدْعًا شاذًّا لا نظيرَ له في الإملاء العربيِّ.
3. الشُّذوذ الكتابيّ باستحداث رُسُومٍ إملائيَّةٍ لا عهدَ للعربيَّة بها، نحو: حبيب الله، وصلاح الدِّين، وأبي بكر، وغيرها. قال الدُّكتور فيصل المنصور في القول بكتابة المتضايفَينِ على عدم الفراغ: «ويلزمه أن يكتُبَ (شمسالدِّين) هكذا»(42).
4. اختلاف أحكام الهمزة، والانتقال من الابتدائيَّة إلى المتوسِّطة، فيترتَّبُ على ذلك اختلاف صورة رسمها؛ لأنَّها ستُرسَمُ عندئذٍ بحسب قاعدة الأقوى الإملائي؛ فتظهر بذلك صورٌ كتابيَّة لا أصلَ لها، نحو: أبوئِحسان، وأبوئِيمان، وأبوؤُسامة، وغير ذلك.
- - - - - - - - - - - - - - - -
الهوامش:
(1) عُمدة الكُتَّاب: 147.
(2) الجامع لأخلاق الرَّاوي وآداب السَّامع: 2/ 268.
(3) التَّقريب والتَّيسير لمعرفة سُنن البشير النَّذير في أُصول الحديث: 68.
(4) ألفيَّة العراقي المسماة بـ: التَّبصرة والتَّذكرة في علوم الحديث: 142، وانظر: فتح المغيث بشرح ألفيَّة الحديث للعراقي: 3/ 60، وفتح الباقي بشرح ألفيَّة العراقي: 2/ 38.
(5) (11) (13) شرح (التَّبصرة والتَّذكرة = ألفيَّة العراقي): 1/ 472.
(6) الاقتراح في بيان الاصطلاح: 42.
(7) الـمُقنِع في علوم الحديث: 1/ 351.
(8) تدريب الرَّاوي في شرح تقريب النَّووي: 1/ 502.
(9) الوسيط في علوم ومصطلح الحديث: 127.
(10) انظر: النُّكت الوفيَّة بما في شرح الألفيَّة: 2/ 146، وتوجيه النَّظر إلى أُصول الأثر: 2/ 796.
(12) الدُّر النَّضيد في أدب المفيد والمستفيد: 438.
(14) ألفيَّة السُّيوطيّ في علم الحديث: 75.
(15) (20) (39) صُبح الأعشى في صناعة الإنشاء: 3/ 212، وانظر: همع الهوامع: 2/ 237، والمطَالِعُ النَّصرية: 43، وعِلم الكتابة العربيَّة: 171.
(16) انظر: المطَالِعُ النَّصرية: 39، وانجلاء السَّحابة عن قواعد الإملاء وأُصول الكتابة: 62، والمفرد العَلَم في رسم القلَم: 62، والإملاء والتَّرقيم في الكتابة العربيَّة: 85، والضِّياء في قواعد الإملاء والتَّرقيم: 103، والمجمل في الإملاء: 61، والإملاء العربي نشأته وقواعده ومفرداته وتمريناته: 84، وصوى الإملاء: 137، وكتاب الإملاء: 141، وأُصول الإملاء: 89، والمعجم المفصَّل في الإملاء: 250، وقواعد الإملاء: 54، وعِلم الكتابة العربيَّة: 171، والإيجاز في الإملاء العربيّ: 85، ولآلئ الإملاء: 147، والإملاء الفريد: 86، وعنوان النَّجابة في قواعد الكتابة: 16.
(17) (42) مجموع مقالات الدُّكتور فيصل بن عليّ المنصور في عُلوم العربيَّة: 193. (كتاب شبكيٌّ).
(18) مجمع اللغة العربيَّة على الشَّبكة العالميَّة، 8/ 4/ 2018م، كتابة المركَّب الإضافي، استُرِدَّ (12/ 11/ 2020). (موقع إلكتروني).
(19) انظر: كتاب الكُتَّاب: 47.
(21) (23) المفتي اللُّغوي @sboh3333، تغريدة بتاريخ: (5/ 4/ 2015م)، عُوينَت في: 12/ 11/ 2020.
(22) كذا في الأصل، ولعل الدُّكتور أراد: (أمَّا إذا كان وصفًا)، فسقطت (كان) سهوًا.
(24) الـمُزهِر في علوم اللُّغة وأنواعها: 1/186.
(25) انظر: المحصول: 5/ 207، ورسالة لطيفة جامعة في أُصول الفقه ا لمهمَّة: 105.
(26) (31) انظر: شرح الزَّرقاني على موطأ الإمام مالك: 1/ 554.
(27) (28) ظاهرة النُّدرة في النَّحو العربيّ بين السَّماع والقياس: 137.
(29) انظر: التَّقرير والتَّحبير: 1/ 359.
(30) انظر: التَّفسير الكبير: 1/ 45.
(32) (34) انظر: البحر المحيط: 2/ 117، 5/93.
(33) انظر: المحصول: 1/ 316.
(35) (37) انظر: مواضع اللَّبس في العربيَّة وأمن لبسها: 10، 14.
(36) اللُّغة العربيَّة معناها ومبناها: 189.
(38) الأُصول النَّحويَّة المختلف عليها بين القدماء والمحدَثين (دراسة تاريخيَّة موازنة): 111.
(40) انظر: دراساتٌ في علم اللُّغة الوصفيّ والتاريخيّ والمقارن: 27.
(41) انظر: مواضع جواز التقاء الساكنين في العربيَّة الفصحى: 121 وما بعدها.
** **
- صفاء صابر مجيد البياتي