أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
مساقات
ذَكَرنا في المساق السابق أنه قد يُحسَب (لأبي الطيِّب المتنبِّي)- مع عروبيَّته الصميمة- أنَّه خالفَ في شِعره بعض التمييز العنصري ضِدّ المرأة، الذي تجلَّى لدَى الشعراء العَرَب وغيرهم، من سابقيه ولاحقيه، ومنهم (البحتري) و(المعرِّي)؛ فرثَى جَدَّته، ورثَى أُمَّ (سيف الدَّولة)، ورثَى أُخته. وقد تبيَّن أنَّ مثل هذا الحِسِّ الإنسانيِّ كان شاحبًا في الشِّعر العَرَبيِّ القديم بعامَّة. وناقشنا في ذلك المقال القصيدة الأولى في رثاء جَدَّته، وهي ذات المطلع:
أَلا لا أَرَى الأَحداثَ حَمْدًا ولا ذَمَّا ... فَما بَطْشُها جَهلًا ولا كَفُّها حِلْما
واليوم نناقش قصيدته الثانية في رثاء والدة (سيف الدولة)، وهي ذات المطلع:
نُعِدُّ المَشرَفِيَّةَ والعَوالي ... وتَقتُلُنا المَنُوْنُ بِلا قِتالِ
ومنها أبياته:
وهَذا أَوَّلُ النَّاعينَ طُرًّا ... لِأَوَّلِ مَيتَةٍ في ذا الجَلالِ
كَأَنَّ المَوتَ لَم يَفجَعْ بِنَفسٍ ... ولَم يَخطُرْ لِمَخلوقٍ بِبالِ
صَلاةُ اللهِ خالِقِنا حَنوطٌ ... عَلى الوَجهِ المُكَفَّنِ بِالجَمالِ
عَلى المَدفونِ قَبْلَ التُّربِ صَوْنًا ... وقَبْلَ اللَّحدِ في كَرَمِ الخِلالِ
وهو يَعُدُّ صَون المرأة هنا بمثابة دَفْنها، والتذرُّعَ ببعض القِيَم المحافِظة بمنزلة لَحْدها حيَّةً. وكذلك كان العَرَب يفعلون، وما زالوا. بل ابتكروا في القرون المتأخِّرة من ألوان الصِّيانة ما لم تعرفه الجاهليَّة الأولَى. حتى لقد صاروا يئدون اسم المرأة نفسه؛ الذي أضحى عورةً لدى أشاوسهم؛ لا يجوز البوح به، لا عن دِيانة، بل عن جاهليَّةٍ مبتدعة، أَضَلُّ من الجاهليَّات الأُولى سبيلًا. لذا باتت المرأة بلا اسم، بل هي: «كريمة فلان» في دعوات الزواج! ويا لها من كرامة! وباتت تُجَرَّد من انتسابها إلى القبيلة، أو إلى لقب العائلة؛ فليست بـ»فلانة الفلانيَّة»- كما كان العَرَب ينسبون النساء- بل هي: «فلانة الفلاني»؛ من حيث إنَّ الانتساب إلى القبيلة أو العائلة ليس من حقِّها، بل من حقِّ أبيها. وحين يُضطرون للاعتراف بأن ثمَّة امرأة- فالزواج لا يكون إلَّا بين رجلٍ وامرأة- فهي (كريمة فلان الفلاني). في سلسلةٍ من الاختراعات، التي يُبدِع فيها العُربان دائمًا، ولله درُّهم! وهو تطوُّرٌ لم يكن عصر (المتنبِّي، -354هـ= 965م) قد توصَّل إليه، غير أن بِذاره كانت آخذةً في التبلور، مع مثل هذه الفكرة: «المَدفونِ قَبْلَ التُّربِ صَونًا/ وقَبلَ اللَّحدِ في كَرَمِ الخِلالِ!» ثمَّ يستدرِك (أبو الطيِّب):
ولَيسَتْ كَالإِناثِ ولا اللَّواتي ... تُعَدُّ لَها القُبورُ مِنَ الحِجالِ
وهنا يَرِد الاستثناء النمطيُّ، الذي أشرنا إليه في مقال سابق. فمع أنه قلَّما رثَى شاعرٌ عربيٌّ امرأة، فإنه إذا جُنَّ ففعل، سارع إلى الاعتذار، بالإعلان عن هذا الاستثناء: المرثيَّة ليست كسائر النساء، أيها الناس، بل ليست بامرأةٍ أصلًا، وإلَّا لما استأهلتْ الرثاء! إنَّ الشاعر بهذا يحاول تعميد نفسه، للتطهُّر من رجس رثاء النساء، الذي رأينا من قَبل أنه كان يُعَدُّ عيبًا، وعجزًا، وممَّا يُقتل دونه الشعراء حياءً، إنْ خطر لهم في بال! ليقول المسكين لمجتمعه: كلَّا، لستُ بقليل الحياء، ولا بمجنون، ولا بعاجز، لكنَّني إزاء امرأةٍ استثنائيَّة، «ولَيسَتْ كَالإِناثِ»، ولو كانت كالإناث، ما ارتكبتُ حماقة هذا المنكَر، فاخترقتُ خطَّه العنصريَّ الأحمر!
ثمَّ يقفز (المتنبِّي) عن فرسه الإنسانيِّ، ليُذكِّرنا بما سوف يصرِّح به (المعرِّي) بعده، ممعنًا في شرح أسبابه. وهو أنَّ المرأة الطبيعيَّة- غير الاستثنائيَّة في مثل مقام أمَّهات سيوف الدُّول- مكانها معروف، حسب العادات والتقاليد العربيَّة العريقة، وهو أن «تُعَدُّ لَها القُبورُ مِنَ الحِجالِ»! ألم يقل فيلسوف الشعراء (أبو العلاء المعرِّي)- لا عَرَّى الله نظمه ولا تفلسفه من الأتباع مَدَى الدهر!- فالرجل محلَّ إعجابٍ منقطع النظير ممَّن يَعدُّونه مفكِّرًا إنسانيًّا، لا يُشَقُّ له ظلام:
ودَفْنٌ والحوادثُ مُفْجِعاتٌ ... لإحداهنَّ إحْدَى المَكْرُماتِ!
في دعوةٍ صريحةٍ إلى وأد المرأة، ساقها في زمرة أبياتٍ، تنضح نورًا على نور! لا حاجة لإعادتها، فليرجع إليها من شاء في المقال الأوَّل من هذه السلسلة.
تلك، إذن، هي «إحدى المكرمات»، التي توارثها الناس، حتى صارت في أدبيات الأعراس لدينا: «كريمة فلان الفلاني»! وتلك هي «الحِجال»، التي أشار إليها (المتنبِّي) في بيته؛ فالنساء هنَّ «رَبَّات الحِجال»، أي صواحب المقاصير، أو الأخبية، التي تُجعَل للنساء كالقبور في حياتهن، وإذا متن صارت قبورُهن حِجالَهن الأبديَّة. ثمَّ يقول أبو الطيِّب:
ولَو كانَ النِساءُ كَمَنْ فَقَدْنا ... لَفُ ضِّلَتِ النِّساءُ عَلى الرِّجالِ
لو...، و»لو تفتح عمل الشيطان»، كما يقال! وهنا يؤكِّد استثنائيَّة السيِّدة التي تورَّط في رثائها. فـ(لو): حرف امتناع لامتناع، حسب وصف النُّحاة: يمتنع أن يكون النساء كالمرثيَّة هذه، أمِّ سيف الدولة؛ ولذا لا غرابة أن لا يخطر في ذهنٍ أن تُفضَّل امرأةٌ على رجل. والمفاضلة فيروسٌ ثقافيٌّ عَرَبيٌّ في كلِّ شأن. فإمَّا أن يكون الرجال أفضل من النساء، وهذا ما وجدنا عليه آباءنا، منذ 150 سنة قبل الإسلام تقريبًا، وإمَّا أن يكون النساء أفضل من الرجال، وهذا هو المستحيل بعينه. اللهم إلَّا إذا كانت المرأة أميرة، وابنها سيف دولة، والشاعر أبا طيِّبٍ متنبِّئًا، في حالةٍ لا يُحسَد عليها من الارتباك؛ في بلاط (سيفٍ) بين خوفٍ ورجاء! عندئذٍ فقط تنحلُّ عُقَدُه المتوارثة، وتقع المعجزات، وتنقلب السُّنن والأعراف، فتصبح المرأة، لا مساوية للرجل في الكرامة الإنسانيَّة فحسب، بل هي أكثر من ذلك: مفضَّلةٌ عليه. مع ضرورة التنويه من الشاعر بأن «لكلِّ مقامٍ مقال»، ولا سيما عند الشعراء!
على أن الشاعر قد عاد فجأة إلى صوابه، بعد ما أسرف عليه من أغلال اللفِّ والدوران في دهاليز التقاليد، والكَرِّ والفَرِّ بين واجب الرثاء وأعراف المجتمع، ليقول بيتًا، لو هداه الله إليه منذ البدء، لكفاه مغبَّة اللتِّ والعجن الذي اضطُرَّ إليه؛ للتخلُّص من المؤاخذات الجماهيريَّة، التي كان يتوقع سياطها. وهو بيته الذي سار في شهرته ليسبق القصيدة كلَّها، وإن كانت شُهرةً إنَّما اكتسبها لما اقترفه من كسر النسق القارِّ:
وما التَّأنيثُ لِاسمِ الشَّمسِ عَيبٌ ... ولا التَّذكيرُ فَخرٌ لِلهِلالِ
وما كان لهذا البيت أن ينال شهرةً، حتى أصبح مضربَ المثل والحِكمة، لولا أنه صادف عقولًا ترى في تقرير هذه الحقيقة البدهيَّة شِعريَّةً لافتةً، بل مدهشة. ولو قيل في أُمَّةٍ أخرى، مختلفة القِيَم، لنُظِر إليه على أنه لغوٌ سخيف؛ حيث لا يُنظَر إلى التأنيث على أنه عيبٌ أصلًا، ولا إلى التذكير على أنه فخر؛ فليسا سِوَى نوعَين متكاملَين، لكلِّ منهما وظيفته ومكانته وامتيازه النوعي. على أنَّ (التَأنيث لاسمِ الشَّمس، والتَّذكير للقمر) لم يأت من فراغ في لسان العَرَب، بل لهما جذورهما الميثولوجيَّة. من حيث كان العَرَب يعتقدون أنَّ الشمسَ امرأةٌ، والقمرَ رجُلٌ، وأنهما زوجان، وقد أنجبا بنتًا، سمَّياها: (الزُّهرة). وانطلقت آلهتهم المتعدِّدة- اللَّات، والعُزى، ومناة، وود، وشهر، والمقة، وغيرها- من هذا المعتقَد الشمسيِّ والقمريِّ والزُّهري. ومن هنا فإنَّ التَأنيث لِاسمِ الشَّمسِ عيبٌ، حسب الثقافة العَرَبيَّة الأُسطوريَّة، والتَّذكير فخرٌ للهلال. وانقسمت القبائل العربيَّة في تقديسها هذين الأقنومين، وبعضها مزج في اعتقاده بينهما معًا.(1) ومن ثمَّ كان تشبيه الرجل بالشمس، في مقام المديح، غير مستساغ، إلَّا في نهايات العصر الجاهلي، بعد أن أوشكت تلك العقائد تنحلَّ من النفوس، أو يمسُّها الاختلاط في التعبير. فوجدنا (النابغة الذبياني) يقول، مثلًا:
فَإِنَّكَ شَمسٌ، والمُلوكُ كَواكِبٌ، ... إِذا طَلَعَتْ، لَم يَبْدُ مِنهُنَّ كَوكَبُ
ويُعدُّ هذا انحرافًا عن أعراف المديح الغالبة العتيقة، أيَّام كان الرجل (قمر 14)، أي: بدرًا. فكانت (بَرَّة بنت عبد المُطَّلِب)، ترثي (شَيبة الحَمْد: عبد المُطَّلِب بن هاشم بن عبد مَناف) قائلةً:
لَهُ فَضْلُ مَجْدٍ على قَومِهِ ... مُنيرٌ يَلُوْحُ كَضَوءِ القَمَرْ
وفي المقال التالي، نحاول الإجابة عن السؤال: لماذا بدا (المتنبِّي) مستقيم الطبع والإنسانيَّة في رثاء جَدَّته، بخلاف رثاء والدة (سيف الدولة)، الذي غلب عليه التصنُّع، ومداجاة الأعراف، ما أوقعه في حَيْصَ بَيْص؟(2)
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
(1) في كتابي: (2014)، مفاتيح القصيدة الجاهليَّة: نحو رؤية نقديَّة جديدة عبر المكتشفات الحديثة في الآثار والميثولوجيا، (إربد- الأردن: عالم الكتب الحديث)، تفصيل، لمن شاء. ونسخته الإلكترونيَّة متاحة على الرابط: https://archive.org/details/Pre-islamicPoem
(2) هذا المقال جزء سادس من ورقة بحثٍ حِواريَّةٍ قُدِّمت في (الصالون الثقافي بنادي جُدَّة الأدبي الثقافي)، مساء الأحد 28 فبراير 2021، بإدارة: (الشاعرة جواهر حسن القرشي). للمشاهدة على موقع «اليوتيوب»: https