الدكتور فؤاد زكريا من كبار المفكرين.. لم أقرأ له في أي موضوع فكري أو فلسفي، إلا وشعرت أنني لم أعد بحاجة للقراءة عنه مرة أخرى، فهو يجمع مادته ومصادره، وكل ما كتب عن الموضوع الذي يكتب عنه، ويتعايش كل ذلك ذهنياً داخلياً ويقتله كما يقولون بحثاً... ثم يخرجه بروح ودفقة الاديب، وبعقل المفكر، ومنطق الفيلسوف، فهو أحياناً أكثر قدرة ،وأعمق فكراً وثقافة، وفلسفة ممن يكتب عنهم وأكثر منهم قدرة وحرفية على عرض الفكرة والتعبير عنها بما له من باع طويل في عالم الكتابة، بأسلوب سهل أقرب للأدب منه للفكر والفلسفة، قرأت له أخيراً كتابه عن نيتشه الفيلسوف الألماني، والذي
أعتبره أديباً أكثر منه فيلسوفاً ومن المدهش أن هذا رأي فؤاد زكريا أيضاً، فقد تناوله في هذا الكتاب العميق: حياة نيتشه العقلية وكتبه محللا ملقى عليها الضوء فأصبحت أكثر وضوحاً وقبولاً بعد شرح المؤلف لها... من أهم الأفكار التي ناقشها فؤاد زكريا ان فلسفة نيتشه أو إن شئت ان نقول افكاره لم يكتسبها من تجربة حياة مباشرة ،بل كان ينفخ في افكاره الذهنية ومن حرارة نفسه وروحه وقلقه ومن احساسه وشعوره المحلق حتى انه حول الواقع دفقات من عصارة الحكمة الفكرية ليعيد بها ترتيب الكون من جديد حسب قناعاته وتصوراته الفكرية، لتخرج بعد من ذهنه وكأنها تجارب حياتية معاشة لأنه كان يميل ويعتنق ويفضل العزلة.
وناقش المؤلف أيضاً طريقته ومنهجه في الكتابة فهو لم يكن فيلسوفاً متماسكاً في خطه الفكري صاحب مذهب فكري مغلق كما عند هيجل فيلسوف التاريخ، أو «ايمانويل كانت» صاحب الفلسفة النقدية العميقة، وإنما كانت كتابته فقرات وشحنات نفسية وعاطفية مندفعة كاسحة لعقل من يقرؤها قبل أن تترك تأثيرها عليها ويصبح في الغالب من دراويش مدرسته الفكرية.
كتابات نيتشة تعبر عن الغريزة والروح منفلتة من سطوة وقيود العقل الذي يعتبره نيتشه بأنه يفرض على الحياة الإنسانية مذهبا جامدا أقرب للمجردات، أقرب لحياة الذهن جاف يلجم انطلاق الروح والنفس، من التعبير الفطري المباشر المعبر عن صيرورة الحياة، والفرح الطفولي العفوي بها.
أما طريقته في الكتابة فهي فقرات سريعة خاطفة تواكب قلقه وتوتره العصبي الذي يجعله ينتقل من فكرة لأخرى، فهو ليس من الكتاب أصحاب النفس الطويل.
الكتاب ارتحال في عالم الثقافة، ووجبة دسمة من الفكر والأدب والفلسفة كتبه مفكر من العيار الثقيل.
** **
- إبراهيم الديب