أغمضت جفنيّ - الساعة الواحدة صباحًا - كانا يرتعشان من شدة البكاء طيلة اليوم، كنتُ أشعر بصداع شديد وألم عند العينين، فخلدت للنوم على فراش أرضي وتركت السرير لعبير، هكذا وجدنا أنفسنا ننام بعد بكاء طويل، كبكاء الأطفال المُتشبثين بأذيال ثوب والدهم وهو يهم للخروج من البيت، لا يستدير لبكائهم؛ لأن خروجه أعقل من عاطفتهم الأنانية.
ففي لحظة لم نرتب لها، عُدنا لحقيقتنا؛ أخوة بين بنت وشاب، ينامون متفرقين في بيت والدهم بلا أزواج ولا أبناء من صنيعتهم، عُدنا إلى القدر الذي أنجبنا من رحم واحد وماء واحد.
غفوت أخيرًا..
ولكن سريعًا وجدتني أقطع المنام؛ لتندفع الآهات من قاع صدري، تربعت على الفراش، أبكي كالأطفال بصوتٍ عال ومقهور، فتنبَّهت عبير، تحاول تهدئتي وهي تقطر كغيمة هاربة إلى الأرض:
اهدئي ماريا. لا تبكي...
فجأة! ومن دون تخطيط سابق وجدتني طفلة، عرفت حينها أن الأزمات الكونية تعيد ترتيب البشر في مواضعهم، فالصغار يعودون لمواقعهم الطفولية، ويبقى الكبير مُرغمًا على كتمان عاطفته المنفجرة؛ ليؤدي دوره الأبوي الحاضن والفاتح ذراعيه لاحتواء من يصغرونه بعد أن ينفصلوا عن آثار الزمن الذي صيّرهم أمهات وآباء مسؤولين حاملين أقدارهم على ظهورهم، وبعد أن زجت بهم الحياة؛ ليصعدوا على مسرحها بثياب المسؤولين والقادة إلا أن الحدث الفاصل باغتهم ليذكرهم بملامحهم الأولية، فقد خرج محمود من تجمع أعمامي قبل سويعات، ليزج بجسده الطويل الممتلئ عند باب غرفة أبي، يبكي كطفل باغته حادث مفجع، فاجتمعنا حوله لتهدئته من هذا الانزعاج:
قم. لا تفعل هذا، حافظ على توازنك العاطفي.
يرد منفجرًا بالبكاء أكثر:
لم تشاهدوه، لوحدي رفعته من الأرض وأسندته على صدري، ثم نقلته في سيارتي إلى المستشفى، ففاضت روحه قبل الوصول.
اقتربتُ منه وصوتي مُتعثرًا بالبكاء:
كم أنت محظوظ! لقد فضَّلَك القدر علينا بمساعدته في آخر لحظة من حياته، ربما هذه إكرامية إقامتك معه في البيت، واحتمالك لتدخلات الأجداد وفرض وصايتهم، فلقد ظفرت بعاطفته الأخيرة، إنها قُبلات الوداع الأبدي يا أخي، وقد تميزت بها عنَّا، فلا تبكي.
حينها كنتُ أشعر أن العِرق ينفجر بداخل جلدي ويلتئم لوحده، لا أذكر أنني عانقت إخوتي كعناق هذه الفجيعة، غير أن عناق الموت عناق وجودي، يفرض مفاصله على مفاصلك، ويسيطر بعظامه على عظامك، ويهز أعماقك كما لم تهتز من قبل، لأن صدمة الموت تأخذك لضفة غير مسبوقة، تقلب موازينك، وتأتي بك كما لم تتوقع من ذاتك، تجد نفسك قويًا في لحظة توقعت أنها ستنهيك، ومنهارًا في أخرى ظننت أنها سهلة! هكذا تستدير الأفكار في رأسك، فتصير ترى ولا ترى، تسمع ولا تسمع، تستوعب ولا تستوعب، تبكي ولا تبكي، وتهدأ ولا تهدأ، كل انفعالاتك خارجة عن وعيك، تقودك ولا تقودها.
ليلة كالرعد، نزلت بأحداثها الصاخبة، ولازال الشريط يطوي أمام عيوني، أحاول أن أغطَّ في النوم، إلا أن عقرب الثالثة صباحًا غلبني بالوصول، وترك الصداع يهتّك جدران رأسي، فخرجت من الغرفة باتجاه المطبخ، بحثًا عن كوب شاي كمسكنٍ لصداع جمجمتي، لمحتُ بطرفي غرفته، باتت خالية، وبابها مُغلق بعد أن سافر صاحبها إلى الأبد، لقد مرَّ الزمان سريعًا، وكأني أرانا أنا وأخوايّ متمددين على ذلك الفراش الأرضي، نتراشق بالمسدسات المائية، كان والدي يأخذنا غصبًا لنوم القيلولة، بعد أن تزعجه أصوات لعبنا خارجًا، ينادينا غاضبًا فنستجيب لقراره الصارم، ندخل منتظمين في طابور كطابور المدرسة، يأخذ حامد بجواره على السرير؛ ليبعده عن مشاغبتنا أنا ومحمود، لكن المشاكسة تسري في أرواحنا، فنخبئ المسدسات المائية، وعندما يغفو تبدأ معركة الماء من تحت أغطية السرير إلى أن ينتبه لتمردنا على نظامه الأبوي، فيأمرنا بالخروج، نتدافع خارجين بضحكات مكبوتة إلى أن يُغلق باب الغرفة خلفنا؛ فنقفز من الفرح بعد أن تحقق هدف التسلل من التنويم التأديبي! آه يا أبي.. كيف أحمل هذه الجمجمة الفائضة بالأصوات والصور والأحاسيس الرقيقة؟.
سرتُ أتفقد الممر المؤدي لباب التهوية الخارجية، ذاته طريقنا إلى المدرسة الثانوية الثانية بالهفوف، لازلتُ أراكَ واقفًا بالقرب من باب غرفة الحارس، لا تُغير قرار وقوفك تحت الشمس، لا في حرها الشديد ولا بردها الجاف، تتفقد خروجي من بين مئات الفتيات، وتأخذ مني حقيبتي المدرسية، لأسير مخففة من أي ثقل، أحاول الرفض؛ لأنها حقيبة خفيفة وأنت في عيوني والدي الموقر الذي يعز عليّ السير بجواره كمتفرجة على حمله للأثقال، لكنك تشدها بعجالة:
«جيبيها عنك وبسرعة اركبي السيارة».
فتتركني أتساءل: ما طبيعة المتعة التي يشعر بها الآباء وهم يحملون التعب عن أبنائهم؟
ومرة أخرى، أستدير نحو ممر غرفة الجلوس، كيف يمشي الهواء هذه الليلة في هذا الممر؟ الهواء الذي كان يهتز بدخولك مازال يسمع صدى صوتك الجوهري والعالي آتٍ من التهوية، ووقع نعالك على الأرض، وهيكل بدنك الأسمر بطولٍ معتدل وكتفين عريضين وشعر أسود ممزوج بكثير من الشيب، عينان صغيرتان يا أبي لطالما عملت كمكبر للأحداث والصور، فهذا الجسد عبرت عليه حقب زمنية متباينة بشدة، احتمل القساوة والصعاب بقوة بارعة، لم تغلبه أمراض المسنين ولم يباغته داء صديق، ولكنها خيانة الحياة وغدر اللحظات ونكبة الأقدار! انظر يا أبي إلى الزمن بعد رحيلك، لازال يجري على وتيرته المعتادة، بل تمادت حريته بعد سقوط عهدك، لقد خلد الجميع إلى النوم بعد يوم فجيعتك المروعة والمنهكة، تاركين خلفهم باب التهوية مفتوحًا على مصراعيه! الباب الذي لطالما أحكمت إقفاله ووبختنا على نسيان قفله، كان هاجسك الحماية وقلقك القانون، الذي لطالما توهمت بأننا غير آبهين به، حتى قلت ذات يوم:
إذا متّ، افعلوا ما تشاؤون!
يتبع ....
** **
- رجاء البوعلي