«الجزيرة الثقافية» - جابر محمد مدخلي: البديع والقرفي:
إنّ ذهابك إلى الأمس وأنت في زمن الحاضر يعدّ تجربة مثرية بجميع الحالات؛ مع أنها مغامرة لكنها مغدقة، مثمرة.
ومع الأديب أحمد الحربي في هذه المحادثات المطوّلة حول الفكر، والفنون الأدبية بصنوفها. هذه المرة سنذهب معه محمولين على عرش ذاكرته، محفوفين بطهارة تجربته، وعمقها، وميزتها الخاصة التي جمعت بين الشعر، والنثر وتمازجت حتامَ بدت لنا كما لو أنها حالة رحيل طويلة بعمر أربعة عقود.
ولد الحربي شاعراً مطبوعاً، وشقّ له طريقاً يبساً في بحرٍ عميقٍ ظلّ يغرف لنا منه خلال الأربعين عاماً المنصرمة. طريقه المحفوف بالقافية، واللغة الشعرية التي وصلتنا معبّرة جاهزة بعد أن احتمل عناء الصعود إليها نيابةً عنّا.
نشأ الحربي بين مجايليه وهو يرى أنّ الشعر لسان العرب وديوانه، ولغته الخاصة فاتبع نور رؤيته هذه التي حملته للمنابر، وجعلت صوته الصادق يبلغ الآفاق، وإلقائه الماتع المتصبب ضيفاً على الأرواح قبل الأسماع.
عصرته التجربة، والمشاهد الثقافية العربية، وجاء نتاج عصرها له عصارةً شعريةً لا تشعر وأنت تقرأها أو تتذوقها، أو تطعمها إلا وأنك أمام وارث للشعر الجاهلي بأدواته، وانفعالات، ومطالعه، وحلاوته، وطلاوته.
الحربي مثمر دائماً، وقد جابت تجربته بحور الشعر كاملةً، ثم في واسطة عقد تجربته الثانية حمل درع الشعر وواجه به معركة النثر روايةً وفنوناً نثرية متنوعة أخرى؛ فكتب الرواية منفصلاً عن حالته الشعرية منساباً إلى السيرة الذاتية، ثم إلى الفكر المجتمعي، ثم إلى الصوت الخافت في ذاكرة التراث والأزمنة التي عاشته بمقدار معايشته لها. انتقل بين رحلة الأمس وبلا عنوان خلال أربعين سنةً أشبه ما تكون بسنّ القوة، والنبوّة؛ لهذا جاء شعره قوياً قادراً على العيش والتعايش مع كل الأجيال، والعصور مختلطاً بنبوءات كثيرة، متعددة تحققت جلّها، وأثبتت علو شأنه الشعري، ونهضته الإبداعية ومشهده الثقافي المتنوع الخاص به، والمدوّن باسمه تحت مجموعته الشعرية الكاملة، وسبعة عشر نتاجاً أدبياً وجميعها تعلن اسم أحمد إبراهيم الحربي.
ولننوه لقراء الجزيرة الثقافية الأعزاء ومحبي الأديب الراحل الحربي بأنّ هذا الحوار هو الجزء الذي قاوم مرضه الأخير للإجابة عليه إضافة إلى قائمة من الأسئلة التي سعيت للاختيار منها ما هو صالح لنشره فإلى نص الحوار الأخير في حياة الحربي:
* أتخيل الآن تجربتكم الشعرية وكيف بدأتموها، ثم أحاول بناء أخاييل عدّة حول زمن التجربة الذي عاصرتموه إلا أنّ أخاييلي كلها غير واضحة، بل معتمة تماماً؛ لتباعد الزمن، وتغير أنماط الوصف، ولأنه وحدك فقط من يمكنه أن يحملنا على جناحي ذاكرته ليرينا ما لم نر!؟
- يا الله!! تعود بيّ إلى أكثر من خمسين عامًا، أكثر من نصف قرن تختزنه الذاكرة، وأتمنى ألا تخونني؛ لأنني أخشى ضياع بعض الذكريات في حناياها الخلفية التي تحتفظ في صندوقها بالتالف من الذكريات، التي نادراً ما نحصل عليها.
قبل البدء تربيت في بيئة علمية فقد كان أجدادي لأبوي يعلمان الناس في الكتاتيب والمعلامة في المسجد، ولحق بهم والدي الذي عرفته شيخاً كبيراً وإماماً لمسجدنا وخطيباً لجامعنا، وقد كانت لديه مكتبة عامرة استفدت منها كثيراً واستفدت من مكتبة عمي علي وأخي علي أيضًا.
أنا واحد من طلاب المعارف ومن خريجي مدارس المعارف فعندما كنت طالباً في المرحلة المتوسطة حظيت بمعلمين رائعين في مختلف المواد وكان حظي كبيراً أن يعلمني اللغة العربية أستاذي الشاعر الكبير علي النعمي الذي كان له حضوره الزاهي في المشهد الشعري السعودي، حيث قدم من الرياض بعد تخرجه من الجامعة وكانت له تجربة أدبية لامعة وتجربة صحفية ثرية فكان له الفضل في تبني موهبتي ونشر أول قصائدي المتواضعة في بريد القراء والتي احتفيت بها احتفاء يفوق كل وصف بل جعلتني أشعر بالفرق بيني وبين أقراني في صف الدراسة، وجعلت المعلمين يحتفون بي فلم يقدم طابور المدرسة غيري ولم يكتب كلمات الطلاب غيري وفي كل احتفال كنت المقدم كذلك فغرس في داخلي حب الأدب وحب الشعر خلسة، وقد أمدني ببعض دواوين الشعراء في العصور المختلفة، وركز أكثر على ديواني شوقي والمتنبي، فكنت أقرأ القصائد وأحاكي بعضها وأحيانا أعدل بعض العبارات لأنسبها لنفسي وأحسبها تعبر لأستاذي كقصيدة جديدة ولكنه يكتشف التعديل ويعدل عليه ويردها لي، ولم يتركني أتخبط بين القصائد بل وجهني التوجيه السليم الذي يضمن به وصولي إلى المسار الصحيح والسير فيه بلا تعثر، وعندما وصلت المرحلة الثانوية وجدت عددا من المعلمين الذين لهم اهتمام بالشعر ويكتبونه أيضا، وأذكر في تلك المرحلة عندما توفت السيدة كوكب الشرق تبارى الشعراء في رثائها، ومنهم من كان معترضًا على رثاء أم كلثوم فقد قال أحد الشعرء:
«من أم كلثوم هذي إنها امرأة؟
ليست كما قلت كل العرب تبغيها»
فجاءته الردود كالصواعق من الشعراء المحبين لها ومنهم أستاذي النعمي، وأستاذ الكيمياء وأستاذ اللغة العربية في المرحلة الثانوية وأساتذة المعهد العلمي آنذاك، وقد جاريتهم بقصيدة في تلك الفترة، وأيقنت أنني كلما قرأت أكثر نضجت التجربة أكثر، وقد أهملت كل القصائد التي كتبتها في تلك المرحلة، واحتفظت ببعض الكتابات التي طورتها فيما بعد، في المرحلة الجامعية كنت أكثر نصجاً وقد كتبت قصائد كثيرة في مرحلة الجامعة اخترت منها مجموعتي الأولى: رحلة الأمس.
* الشاعر أحمد الحربي مبدع في شعره كما في نثره، لكن المواكب لتجربته الإبداعية يقف على أن (أنوثة القصيدة) تمارس استبدادًا واضحًا على (فحولة النثر) (من عنوان كتابه/ فحولة النثر وأنوثة القصيدة)، فبم يعلل الحربي هذا الاستبداد؟
- الحب وحده من يمارس الاستبداد وقد عرفني الجمهور شاعراً عاشقاً للشعر لهذا كانت القصيدة مستبدة لحرفي مسيطرة على مشاعري، وهي هكذا متجاوزة على النثر الذي يبدو عاجزًا أمامها، وكما قال الشاعر: «إنما العاجز من لا يستبد».
* ما الذي رآه الحربي في جميع مجايليه، ورفاق عمره ومرحلته الأدبية وآثاره، أو أزعجه تجاههم منذ البدء، وحتى الآن إلا أنه لم يصرّح به لأحدٍ منهم مطلقاً؟
- أنت تعلم يا ابني العزيز جابر: أن الناس كلهم أحبابي؛ لهذا الحب لا يجعلك ترى إلا الجمال، وكلما حاولت النظر بعين الكاره أو الناقم أو الغاضب على أحد فإنك لن تغير في الأنفس شيئًا ولكن استقرارك على صورة واحدة، ومشاعر ثابتة تجاه الجميع فأنت بهذا تستطيع أن تخبرهم بكل ما في نفسك، وسيذكرونك دوماً بكل ما صمتّ عنه تجاههم؛ لأنهم مهما حاولوا نسيانه أو التخلص منه فسيعجزون. هذا الشعور وحده من جعلني أعيش مستمتعًا بكامل تفاصيلي واحتفظ بكل من حولي؛ لأنك حين تحول حياتك أو مسيرتك إلى صراعات فأنت تخسر أهم أمرين: عمرك، وإبداعك.