راعني ما رأيته من بَوْنٍ شاسع بين روايتين تُعَدّان من التراث العالمي، هما: «أنا كارنينا» للكاتب والفيلسوف الروسي «ليو تولستوي»، و «بائعة الخبز» للكاتب الفرنسي العملاق «كزافييه دو مونتبان»؛ فمع أنّ كلا الروائيّين - تولستوي وكزافييه – هما من عمالقة السرد في القرن التاسع عشر، وكلتا الروايتين لقيتا رواجًا كبيرًا، إلّا أنّني لمست الفرق الكبير بينهما في كثير من الزوايا التي تستحقّ تسليط الضوء عليها. كالراوي العليم الذي امتاز بتفرّده مع «أنا كارنينا»، حتّى لكأنّنا نتلقّى الحكاية مشافهة من راوٍ وقف شخصيًّا على كلّ أحداثها، ونقلها لنا بعاطفة الأب المحبّ الذي أمضى عمره كلّه ينهل من التجارب، ويريد لكلّ من يسمعها أن يستقيَ العبرة منها. بينما نجد الراوي العليم مغيّبًا - إلى حدٍّ ما - في «بائعة الخبز»، فهو يظهر كأنّه واصفٌ مجرّدٌ من المشاعر، يروي لنا أحداثًا سمع بها ولم يعايشها عن كثب ويتأثّر بها، ولم يكن معنيًّا باستلهام العِبَر منها، أو أنّه غير مهتمٍّ بذكر التفاصيل الدقيقة التي تُدخلنا في عمق الحدث.
تستوقفنا كذلك في «أنا كارنينا» الواقعيّة والموضوعيّة بحيث نشعر بمنطقيّة ما يجري مع الحسناء «أنا» بطلة الرواية؛ في حين تبدو لنا الأرملة «جان فورتيه» أكثر ما تكون بعدًا عن المنطقيّة رغم واقعيّتها، إذ تتّخذ السرديّة منحًى خياليًّا في أكثر من موضع، مستخدمةً المشروب الهندي الذي أسمته «إكسير الحقيقة»، وسيلةً لفكّ عقدة الحكاية التي تشكّل مفترقَ طرقٍ لبقيّة السرد. كذلك اقتناع الجميع في الرواية، بمن فيهم رجال الدرك، أنّ «جاك جارود» قد قُتل خلال حريق المصنع دفاعًا عن الشرف، مع أنّهم لم يعثروا على أيّ أثر لجثّته. إضافة إلى اختلاق قصّة موت «بول هرمان» لتبرير انتحال جارود شخصيّته، عدا عن عودة المجرم إلى مكان جريمته في باريس استجابة لإلحاح ابنته لوسي، وكان الأولى إلحاحه هو لا ابنته، كونها لم ترَ باريس في حياتها، ولا تعرف غير أميركا وطنًا... وغيرها الكثير من الأحداث غير المنطقيّة التي حفل بها هذا العمل، فقلّلت من قيمته. في حين نجد أنّ «تولستوي» لم يهمل أيّة جزئيّة مهما كانت صغيرة، في سبيل حفاظه على المنطقيّة والواقعيّة.
ممّا نلاحظه أيضًا عند مقارنتنا بين الروايتين، السرعة غير المبرَّرة التي كانت عليها رحلة «فورتيه»، مقابل البطء الجميل والمبرَّر الذي حفلت به حكاية «أنا كارنينا». خلاف الاختيار الإبداعيّ لمَواطن التوقّف عند أحداث مهمّة، وإدارة حوار جميل يتلاءم معها، أو المرور العارض على أحداث لا تستحقّ إيلاءها اهتمامًا كبيرًا، فينتقل منها سريعًا إلى غيرها؛ إضافة إلى إدارته الموفّقة للحوار بشكل عامّ. بينما لم يكن الأمر كذلك مع «كزافيه» الذي مضى في سرده على وتيرة واحدة، فجاءت حواراته سطحيّة، وغابت عنها تلك الوقفات الإبداعيّة التي يمتاز بها سرد «تولستوي».
والآن ما قولكم إن كانت هذه الملاحظات عن رواية «بائعة الخبز» غير واقعيّة البتّة، وأنّ «كزافيه» بريء ممّا نسبتُه إليه، وأنّ جُلَّ ما دوّنته من نقدٍ قاسٍ استند إلى ترجمة عربيّة سيّئة، قدّمَتْها إحدى دور النشر التجاريّة التي ارتأت اختزال الرواية وتقديمها في مئتين وتسع وسبعين صفحة من القطع الصغير، بغية استقطاب أكبر عدد من القرّاء وبأبخس الأسعار، ممّا كان سببًا في السطحيّة المنفِّرة والاختزال المُخِلّ الذي وقفْتُ عليه، والذي - للأسف - تعتمده بعض دور النشر لأغراضٍ تجاريّة بحتة، فتبدو بعض الروايات المترجمة مختلفة بشكل كبير عن النسخة الأم! أو حتّى عن بعض الترجمات الأخرى الجيّدة كـ «بائعة الخبز» التي ترجمتها الدار الأهليّة بعمان بواسطة المترجم يوسف عطا الطريفي في ستمائة وستٍّ وأربعين صفحة، وهو الرقم المتكافئ تقريبًا مع النسخة الأصليّة من الرواية التي تربو على الألف صفحة.
خلاصة القول أنّنا لن نجنيَ المكاسب التي نأملها إن لم نكن أمناء في نقل ثقافة الشعوب الأخرى ونِتاجهم الأدبيّ الرائع. ولا أظنّنا سنُرضي من لا تستهويهم القراءة، مهما فعلنا، لذا يجدر بنا أن نوليَ العمل حقّه من العناية كون من يقرأون هم في النهاية، النُّخبة.
** **
- حامد أحمد الشريف