لقد أجاد الدُّكتور تمَّام حسَّان في هذا الجانب بكتابه (اللُّغة بين المعياريَّة والوصفيَّة)، وكذلك في فصل تحدث فيه عن (تاريخ اللِّسانيات) بكتابه (مناهج البحث في اللُّغة) والَّذي أشار فيه إلى أنَّ المستوى الصوابيّ القياسيّ للمتكلم هو المجتمع نفسه، لأنَّ معاييره اللُّغويَّة صاغها المجتمع نفسه، فهي عرضة للاختلافِ والخطأ أكثر من غيرها، وعلى هذا تندرج اللَّهجات العربيَّة وخاصة المعاصرة منها والحديثة، وكذلك المعايير الشعرية الَّتي وضعها الشعراءُ والمأخوذةُ – غالباً- من المجتمعِ.
وعلى هذا، فإنَّ اللُّغة عند المتكلم هي وسيلة حياة في المجتمع، يُشغل المتكلم نفسه بواسطتها، وتقوم اللُّغة عند المتكلم على جانبين مهمين، هما: المعيارية، والحركة أو التغيير، وهي أكثر قبولاً للتطوير والدراسة؛ لأنَّها مرنة، معياريتها تتغير بتغير المجتمع وثقافته؛ ولأنَّ كلَّ علمٍ مرتبطٌ بالمجتمع يقبل التغيير.
أمَّا لغةُ الباحث فمستواها الصَّوابيّ هو النَّحو العربيّ نفسه، تلك القواعد الَّتي جعلها الباحث مقياساً يقيس بها كلَّ ظاهرةٍ لغويَّةٍ، وهذه المعايير تقومُ على أمورٍ ثلاثةٍ، هي: المعايير الصارمة، وتلك المعايير هي موطن دراسة الباحث، ومادَّته اللُّغويَّة، ويشغل نفسه بهذه اللُّغةِ ومعاييرِها، لا يخرج عنها؛ لذا فهي أدق من المعايير الاجتماعيَّة السابقة، وبسببها دار الخلاف بين النُّحاة والشعراء.
ويظهر الفرق جليَّا بين اللُّغتين من خلال جودة المعايير، فالمتكلم تظهر جودة معاييره من حسن القياس على المعايير، والباحث من حسن وصف نماذجها؛ وهذا تكشفه طرق تناول النصوص، النص على لسان الأديب والناقد موضوع للجمال والتذوق، وعلى يد الباحث واللُّغويِّ ميدان للتطبيق، فهو موضوع الدراسة، لأنَّ اللُّغة في نظر الباحث ظواهر تلاحظ من خلال النص، وهذا يقرر بأنَّ النصوص في اللُّغة أسبق من المعايير والقواعد النَّحويَّة، وهذا ما ظهر واضحاً في تأليف اللُّغويين المتقدّمين، والمنهج الوصفيُّ الَّذي سار عليه اللُّغويون في جمع اللُّغة كالأصمعيِّ، وأبي زيدٍ الأنصاريِّ، وابنِ الأعرابيِّ، وغيرهم، وهذا المنهج الوصفيُّ هو من خدم اللُّغة العربيَّة أوَّلاً ثمَّ المعياريُّ.
وقد ظهر المنهج الوصفيُّ عند العرب القدماء في دراستهم للغة كسيبويه في كتابه (الكتاب) والمبرد في كتابه (المقتضب) وعبد القاهر الجرجانيِّ في كتابه (دلائل الإعجاز) ويراه الدُّكتور تمَّام حسَّان بالمنهج الوصفيِّ الموضوعيِّ المفضل في دراسة اللُّغة العربيَّة.
ومن نتائج هذه الدراسة، أنَّ المعايير النَّحويَّة، هي الَّتي وصفت اللُّغة العربيَّة، وهي من ثوابت اللُّغة، بتغيرها تتغير اللُّغة العربيَّة – وهذه من المعجزات – والمجتمع اللُّغويُّ هو الَّذي يغير هذه المعايير.
وبهذا، تظهر حقيقة المعايير النحويَّة اللُّغويَّة الَّتي وصفت اللُّغة، وهي وسيلة لكشف المجتمعات، ثابتة غير متغيرة، والمعايير الاجتماعيَّة اللُّغويَّة الَّتي هي حياة المجتمعات، متغيرة غير ثابتة؛ لارتباطها بالمجتمعات.
** **
- د. فهد بن سالم المغلوث