على حين غرة تباغتك في زحام الحياة تشعر أنك بكل ما أوتيت من علم تجهل نفسك!
تحاول أن تتلمسها لتتعرف عليها لكن هناك حاجز بينك وبينها يتعذر معه الوصول إليها!
تسمع صوتك في تسجيل قديم، ترى ملامحك في صورة عتيقة غيرتها السنين، تقرأ كلامك في طرس تهالك أو يكاد، فتبصر أنك ما عدت أنت، وأنك لا تعرف أين تكون؛ وأنت متحول متجدد في كل حين!
تشتاق إليك وكلما حاولت المضي إلى الوراء بالزمن عائداً إلى نفسك كنت كمن يعكس السير في السلم الكهربائي، أنت حيث أنت لا تستطيع العودة لماض تعرفه، ومتجه إلى أمام تجهله!
تتخطفك الحياة من نفسك، تبعثر في أيامها قطعك، وأنت كلما زيد في الحياة أفقك زيد صمتك، ووجدتك تحاول جاهداً ترجمان شعورك في اللغة لكنك تقف أمام مهابة الحقيقة المرة: تكبر الأيام وتصغر اللغة! فتلوذ إلى ما لا ملاذ سواه، تلوذ إلى المأوى المتعب: الصمت.. الصمت!
تشعر أنك كالدخان المتمدد في الفضاء، كلما حاولت أن تمسكك تلاشيت من بين يديك، دخان لا ثقل له لكن يثقل صفاء الهواء!
سلبتك الأيام أحلامك، أنستك إياها، وأنستك نفسك، وصيرتك دخاناً يعوم إلى حيث اللاوجهة، يبحث في الضياع عن دليل!
وترى -وأنت دخان طائر- وجوه أحبتك، تريد أن تخبرهم بأنك تريدهم أن يكونوا بخير، لكنك عاجز عن العثور على نفسك، عاجز عن الإمساك بأطراف دخانك ولمه في جسد واحد متين؛ كي تمد لهم يدك حينها، أنت الذي ارتخت في أطراف الدخان قبضة يديك وتساقطت منها أحلامك!
وفي نهاية المطاف المكلوم تجد نفسك في آخره أمام جرف هاوية يغشوها الضباب، غير قادر على العودة إلى الوراء وغير مبصر لما أمامك بوضوح!
ضباب يغشوه ضباب، ورويداً لا تستطيع أن تشعر بقدميك أهي على الأرض أم تطفو في السماء، غير قادر على التعرف على نفسك، غير قادر على الوصول إليها، والأمر: غير قادر على الخروج منها!
** **
- سراب الصبيح