د. إبراهيم بن محمد الشتوي
سبق وأن تحدثت عن شعر الهجاء، وذكرت أنه من جماليات القبيح، كما ذكرت أن غالب ما وجدت فيه هو إلى الشتم أقرب منه إلى الشعر، خاصة وأن الشعر فن النخبة، وعلم العرب الذين لم يكن لهم علم سواه، لا يصح أن يصير لوناً من السباب والتشاتم، يجمع ألوان الكلام المقذع وقبيحه دون كناية أو مواربة.
أما حين يكون المتحدثون من سوقة الناس وعامتهم، فإن الموقف من هذا القول يختلف، بناء على اختلاف السياق على القول المأثور لكل مقام مقام، أو على طريقة البلاغيين في «مراعاة مقتضى الحال».
فالحديث الذي يصدر من رجل سوقي، والسوقي هنا صفة تطلق على العامي الجاهل، غليظ الطبع الذي لا علم لديه. ولا أدري من أين جاءت هذه الكلمة؛ أهي من السوق أم من الساق، والسوق يجمع أخلاط الناس من غير مقياس، وأما الساق فهو أدنى الجسم أيضاً ويعبر عن دنو منزلة من يستعمل هذه العبارات. ولذا فهو يعبر عن معانيه ويستعمل أدواته، فإذا استعمل الشتائم والسباب، فذلك أنه لا يملك سواها ويظنها الطريقة المثلى في التعبير وإيضاح الأفكار.
وقد لفتت أساليب الشتم لدى العامة والسوقة الأدباء القدماء، فقيدوها في أعمالهم، وحاكوها في بعض آثارهم عجباً بها، وإحساساً بفرادتها كما في المقامة الدينارية عند الهمذاني التي دارت على تشاتم بين شحاذين أيهما يصيب دينار عيسى بن هشام، فكانا في التشاتم كفرسي رهان حتى لم يقدر ابن هشام أن يميز أيهما أقدر على الشتم، وأي واحد منهما شتائمه أقذع ما جعله يرمي الدينار بينهما ويفر بعد أن أوقد ناراً لا يمكن إخمادها.
وفي الرسالة البغدادية يقيد أبو حيان التوحيدي حياة رجل بغدادي، كما يقول في أول الرسالة، وهو -كما يصفه- عيار نعار زعاق شهاق طفيلي، قد بلغ به السخف كل مبلغ. يتحدث أبو حيان على لسانه أو يروي عنه كلامه فيذكر ولعه بشتم الناس والإقذاع عليهم ممن يعرفهم أو لا يعرفهم بألفاظ لا يمكن نقلها هنا، وإذا يبدو في بعضها المعرفة الأدبية أو الحكمة فلأن أبا حيان هو الذي اختارها أو قد يكون هو الذي صنعها، ولا يبعد ذلك كما جاء في مقدمة الرسالة من ذكر لتقليد العميان أو تقليد المتحدثين من البلاد العربية المختلفة.
وأول سمة تتسم بها هذه الشتائم أنها تكال من غير مقياس، فالشاتم لا يهمه من هذه الألفاظ والجمل التي يتفوه بها إلا أنها تحتوي على قبيح الفعل أو الصفة دون الاهتمام بصحتها ومطابقتها لواقع المشتوم، ودون الاهتمام بالمعنى الذي تحويه؛ أهو معنى مسف مغرق بالقبح والرذيلة أم هو معنى عادي لا يكاد يكون ذماً على وجه الحقيقة، كما لا يهمه أيضاً واقع المشتوم أهو نبيل أم وضيع، أكريم أم بخيل، أعالم أم جاهل، فما يهمه هو إطلاق هذه الشتائم دون حساب.
ثم إنها شتائم مباشرة، تميل إلى التصريح دون استعمال التوريات أو الكنايات أو التعريض أو الاستعارة ونحوها من ضروب القول التي يتوسلها الأدباء والشعراء، وكأنه لا يوارب بإطلاق هذا الوصف القبيح على المشتوم ولا يحتاج تجميل ما يقول أو أن يخففه بالكنايات والتعريض.
وبناء على هذه الحال للشتائم، فإنها ليست بحاجة إلى الشرح والبيان أو التفسير والتعليل، وهذا ما يجعلها تأتي متتابعة دون أن يفصل بينها ما يمكن أن يكون مستنداً لها لتسويغها، أو وسيلة لإقناع المتلقي بها لأن هذا التبرير والإقناع ليس مطلوباً ولا حاجة له.
وبعيداً عن أن عقل السوقي لا يقوم على التسويغ والتبرير أو الفهم والإقناع، ولا يحفل بهذه المسائل أو لا يقوى عليها، فإن السياق أجمع لا يحتمل هذا النوع من البيان بناء على أن المتكلم والسامع معاً لا يحفلان به، إذ إن الذي يحفل به الباحث عن الحقيقة أو الملتزم بالذوق، وهؤلاء لا يبحثون عن الحقيقة ولا عن الذوق بناء على ما سبق من القول إن صحة هذه الشتائم أو مقدار قباحتها لا يهم ما دام سيتبعها بأخرى تغطي ما يمكن أن يكون في الأولى من نقص أو لين.
وهذا النظام في بناء الشتيمة المفتقد للتفسير والإقناع، والإثبات انعكس على بنائها الخارجي فجاءت متتابعة دون أن يفصل بينها فاصل، وكأنها حشد لعدد من الصفات القبيحة والألفاظ البذيئة دون نظام أو اعتبار أو رابط يربط بينها، وكأنها في تتابعها واحتشادها تكشف شيئاً في نفس قائلها تجاه من قيلت في حقه، إما حقد أو كراهية أو حسد أو غضب، وهو بهذا يسعى إلى شفاء ما في نفسه وإرضاء ما يدور في دخيلته بعيداً عن أثرها في حق من قيلت فيه أكانت قادرة على الإضرار به أم لا.
وهو ما يبرر أن يكون الجواب على الشتيمة بمثلها كفيلاً بإزالة أثرها بوصفها ضرباً من القول، لا يزول أثره إلا بمثله وذلك من خلال إسكات المتكلم لا بالحجة وإنما بإظهار المقدرة على حشد الصفات والمعاني البذيئة وإلحاقها به من غير دليل ولا بيان بوصفه صورة من الطغيان والبغي والغلبة تحقيقاً للمبدأ الشعبي «أغلبهم بالصوت لا يغلبوك»، وبناء على أن تلك الشتيمة لا يزول أثرها إلا بزوالها من ذاكرة الناس، الذي لا يزول بدوره إلا بشتيمة أقوى منها وأعلق بأذهانهم فتكون مجال فكاهتهم، ووسيلة لتندرهم يملؤون بها ذاكرتهم عن المشتوم ويسمون حضوره بها.