أولع الفتى الصغير بالخطابة، فمارسها في بيته، يُسمع من يستطيع إقناعهم من أهله، ومن يغريهم من أصدقائه وصديقاته، وكم تمنى أن يتاح له في مدرسته ممارسة هوايته، ولكن الحال لم تأت على ما أحب، فكانت المدرسة في مبنى مستأجر، لا تقام فيه إذاعة مدرسية، ولا ينصب فيه منبر، أو يصدح في أرجائه مكبِّر.
حتى إذا انتقلت المدرسة إلى مبناها الجديد، وكان قد بلغ الصف الخامس الابتدائي، كان أول المشاركين من صفِّه في الإذاعة، فقرأ لأول مرة من خلال مكبر الصوت أول سورة الشورى.
لازم الفتى الإذاعة المدرسية فيما تبقى من مراحل دراسته، يقدم برامجها، ويلقي فيها الكلمات والقصائد والمسابقات، إلا أنه لم يكن يقرأ فيها القرآن، ولا ينشد الأناشيد، لما أدرك أن صوته وأداءه لا يؤهله لذلك.
كان اعتلاء منبر الإذاعة أمرًا في غاية اليسر، لما كانت جرأته أقوى، كانت عيون الطلاب والأساتذة المتجهة إليه مصدر ثقة لا مخافة، وملهم ثبات لا ارتباك.
وقُبيل توديعه مقاعد الدراسة في التعليم العام، أُعلن في مدرسته الثانوية عن مسابقة في الخطابة، حُثَّ الطلاب على المشاركة فيها، وإظهار مواهبهم في الارتجال، كان القائم عليها أفاضل مدرسيه، وأقربهم إليه، فسارع في التسجيل، أتى إلى حيث يسجلون في مكتب أستاذه القدير إبراهيم الدبيان في غرفة المدرسين، أتى وهو يقول في نفسه: أترى سيسجل أحد غيري؟ وهل ستقوم المسابقة أو تلغى لقلة المتسابقين؟!
لم يخل طلبه التسجيل من محادثة قصيرة وملاطفة، مع أُستاذيه المقربين: الإبراهيمَين الدبيان والفوزان، فقد كان مكتباهما متجاورين، وكان يستلهم من كل واحد منهما معاني الثقة، وجرعات التشجيع، فضلاً عما يتلقاهما على يديهما من العلم الذي يحبه وينوي أن يتخصص فيه، ولما أراد أن ينصرف قابله أحد طلاب الصف الأول مقبلاً إلى حيث التسجيل، فسرى إلى نفسه الشك أنه جاء ليسابق في مسابقة الخطابة، إلا أنه استبعد ذلك، كيف وأن هذا الطالب لم يقف يومًا على منبر الإذاعة، أو هكذا خُيِّل إليه.
لم يحمل للمسابقة همًّا، ولم يُعد لها عدة، ولم ينتظر يومَها أو يشغله التطلع إليه، حتى إذا جاء موعدها، وجد أن المتسابقين ثلاثةٌ غيره، اثنان من أصحابه الخلصاء، والثالث طالب الصف الأول، الذي قابله يوم التسجيل في غرفة المدرسين!
أقيمت المسابقة في مسرح المدرسة، في وسط اليوم الدراسي، واجتمع لها الطلاب فامتلأ المسرح بهم، تختلط أصواتهم وقت دخولهم وأخذهم أماكنهم، والابتسامات قد ملأت المكان، على اختلاف دوافعها، إعجابًا أو سُخرية، أو تحيُّنًا لخطأ يكون مصدر فكاهة، وسبب تندر، فأخذ المتسابقون أماكنهم صفًّا واحدًا في وسط المسرح، وأخذ أعضاء لجنة التحكيم أماكنهم عن يمين المسرح، يسار الجمهور، وكانت مكونة من ثلاثة أعضاء، هم أساتيذه المقربون!
وكانت لجنة التحكيم قد أحكمت أمرها، واستعدت الاستعداد الكامل، بوضع الضوابط، وتحديد جهات التقويم، ووزعت على أعضائها الأوراق مقسَّمة فيها الجداول، ليضع كلٌّ الدرجات التي يستحقها المتسابق على كل عنصر.
تطوع أن يكون أول المتسابقين خطبة، فلما افتتح المسابقة أحد الطلاب، قدمه ليلقي كلمته، فقام مبتسمًا واثقًا، وتكلم قرابة ثلاث دقائق، وقد اختار الإخلاص لله بالتوحيد، والخلوص من الشرك موضوعًا لخطبته، حمد الله فيها على نعمة الإسلام، وسأله الثبات عليها، وخاطب الجمهور بطلب الدعاء والتأمين على دعائه، وختم كلمته وجلس.
ثم تقدم صاحباه الآخران، فكانت كلمة كل منهما محكمة غاية الإحكام، متسلسلة سلسة، لا تلعثم ولا ارتباك، ولا توقف أو تراجع، أو تصويب للحن، أو استدراك لمعنى، غير أن الصوت كان على وتيرة واحدة، لا ارتفاع ولا انخفاض، مع ما يتمتعان به من صوت حسن جهوري، فقضيا في كلمتيهما قرابة ست دقائق لكل منهما.
ثم قام المتسابق الأخير، طالب الصف الأول، فتقدم وخطب خطبة قصيرة، مزاوجًا فيها بين الخبر والإنشاء، مقررًا ومتعجبًا ومستفهمًا، يرفع صوته، ويحرك يده، ويوزع نظراته، وقد تحدث عن أمور متعلقة بأخلاق الطلبة، فنهى عن الغش، وحث على الأمانة والفضائل.
أتم كلمته وأخذ مكانه، وما هي إلا ثوانٍ معدودة، حتى أُعطي المقدم ورقة صغيرة فيها النتيجة، فتلاها، فكان طالب الصف الأولِ الأولَ، والآخران تعادلا، فكانا في المرتبة الثانية، وكان صاحبنا الأخير!.
لم يستوعب النتيجة لأول وهلة، حتى ظن أنَّ في الأمر خطأً ما، أو أنَّ ثمَّ مفاجأة أو مراجعةً، وسرعان ما تلاشى هذا الظن لما نزل درجات المسرح وسمع حديث الناس عن المسابقة، فقد كان منصبًّا على المفاضلة بين الزميلين المتعادلين، صاحبي المركز الثاني، أما الطرفان فلم يكن ثمَّ خلافٌ حولهما، حتى قال له أحد أصدقائه الأصفياء: أما أنت فواضح أن مشاركتك لتكثير السواد لا غير!
لم تكن لتكثير السواد، ولكنه غرَّته جُرأته، وقعدت به ثقتُه، فقد كانت المسابقة في الارتجال لا في الارتجالية، كان عليه أن يستعد ويعد، فيُعنى باختيار موضوعه، وبترتيب أفكاره، ويتدرب على التركيز، ويتقن آليات التفاعل والمفاعلة..
الجرأة وحدها لا تصنع خطيبًا، والثقة المفرطة لم تنفع الأرنب، وكم أدى الإعجاب إلى الهزيمة، والغرور إلى الفشل.
** **
أ.د. فريد بن عبدالعزيز الزامل السليم