د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** في منزله «البرمَّاني» في ذرى محافظة جبل لبنان «المتن الشمالي» كان «أبو عادل» يعيش نصف العام هادئًا هانئًا متأملًا مستعيدًا عمرًا ثقافيًا خصبًا وصاخبًا خلّفه بما فيه ومن فيه؛ لا يعنيه غبارُه ولا يبلغه ضجيجُه مكتفيًا بمقاله الأسبوعي المليء بما يعكس عمقَه المعرفي وإرثَه العلمي وخبرته العملية، وإذ تغير لبنان تبدل العنوان، ولا ينسى يوم زاره في رمضان، والمسافة بين بيتيهما قريبةٌ مشيًا، وآذنت الشمسُ بغياب فزوده الأستاذ بما يفي لو حان وقتُ الإفطار قبل وصوله، وحاول صاحبكم استضافتَه مرارًا فاعتذر بالتزامه موعدَ نومٍ مبكرًا لا يُخلفُه.
** يومًا كنا ثلاثةً على مائدة غدائه المضيافة؛ شيخَنا أبا يعرب القشعمي، وصديقنا ابنه الكاتب الطبيب عادل، وصاحبَكم، وكان أستاذنا واسطة العقد مستمعًا ومستفهمًا أكثر من كونه متحدثًا ومجيبًا، فإذا تكلم فالتأريخ يحكم والعقلانية تتحكم والاتزان المختلط بالقوة يدير الحوار إلى حيث وعي المرحلة ومرحلية الوعي.
** لياقته الذهنية في أتمّها، وتميزه الكتابيُّ في عليائه، والأجملُ أنه لم ينسقْ وراء جاذبية التكثيف الحضوري عبر الوسائط الرقمية؛ فما أهمَّه تابعٌ ولا متبوع، ولا مسموحٌ ولا ممنوع، ولو كان له موقعٌ شبكيٌ لتألق بمقالاته القصيرة وجمله المعبرة وفواصله الحازمة وأسلوبه الباذخ، وكذا قدرُ الناشئة ألا يجدوا من الرموز من يؤنس غربتهم ويضيء ظلالهم عبر منهجٍ لا يرتضي النزول بل يمد أيديًا للصعود.
** في تلك الجلسة الحميمة تألق الأستاذ بشفافيته المهذبة فأضاف ما ظنناه قد توارى؛ إذ لم يغب السياب والقصيبي ومجلة الجزيرة الثقافية وملفاتها الاحتفائية والتلون النفعي والغد الواعد وخط يده المختلف الذي لم يُسْلمْه للآلة فكما كان ظلّ «وعليه أن يقول وعلى المستقبِل أن يتأول»، وربما استغلقت كلمةٌ أو شطرٌ فنُشرا بغير ما شاءه الأستاذ، وبقي عاذرًا غير عاذل؛ فقراؤه يفهمون موقنًا أن قد فني أو كاد المدققون الموثِّقون.
** وفي تواضعه غير المُدّعى يلفتُ النظرَ قبولُه باشتراطات الرقيب المنطقية، وسبق أن راجعه صاحبُكم – وقت كتابته في الثقافية - حول مقال له لم يجتز الضوء الأخضر، ومع القلق من ردة فعله والتحسب لنتائجها فلم يزد على أن قال: أنتم أعلم بما تستطيعون نشره وأبشروا بمقال بديل، والمفارقة الأبهى أن ابنه الدكتور عادل ينتهج المسلك ذاته؛ فقد شكرَنا في المجلة الثقافية حين اعتذرنا عن عدم نشر مقال له لعدم اختصاصنا بموضوعه وبادر ببعث مقالٍ غيرِه، وعهدنا في نشءٍ من جيل أبناء الأستاذ وأحفاده من يعتبُ ويغضبُ ويحسبلُ ويحوقلُ بسبب خطأٍ عابر أو نشرٍ متأخرٍ أو متعثر.
** الأستاذ محمد بن عبدالله العلي في نهاية عقده الهجري التاسع - أطال الله عمره - فتيٌ في لغته وفكره، وإن نأى عن المنتديات والأمسيات فحقُّه أن نقتربَ منه ونكرمَه بامتداد الوطن أنموذجًا على العقل المنطلق، والبذل المتصل، والتأصيل المتجذر.
** الكبارُ لا يُستنسخون.
قريبًا بحول الله ملف عن الأستاذ محمد العلي