زكية إبراهيم الحجي
نظرة عن كثب إلى تاريخ فلسفة البلاغة اليونانية تجعلنا نركز ملياً في مضمونها ونتساءل: هل هي بلاغة إقناع أم بلاغة قِناع متلبس بالخداع والمغالطة والتضليل؟.. فإذا كان الهدف الرئيس هو الإقناع بلغة تحمل بداخلها الثقة والمصداقية والحجج المنطقية لكسب العقول، فذلك هو المطلب الذي نصبو إليه، خاصة في مجال الخطابة.. أما إن كان في ظاهره قناعاً مزخرفاً بسحر البيان وفن الكلام مع إضمار المغالطة والتضليل فذلك يعني سفسطة.. والسفسطة مذهب فكري فلسفي نشأ في اليونان إبان القرن الخامس ق.م فبعد انحسار الأقلية ظهر السفسطائيون بتوجهاتهم الفكرية ومذهبهم العقلي المعتمد في مفهومه على أسلوب ملتوٍ في الجدال والاستدلال القائم على تضليل وخداع ومغالطة وتحايل؛ لترويج أفكارهم وضمان تغييب الحقائق، وبالتالي التأثير وكسب العقول لغاية في أنفسهم اقتضتها طبيعة الأفكار الفلسفية التي تبنوها وروجوا لها.. فإذا كانت الفلسفة عند فلاسفة الاغريق القدامى تسعى للبحث عن الفضيلة والوصول إلى جوهر وحقيقة الأشياء فإن السفسطة التي هي أحد اتجاهات الفلسفة على النقيض تماماً.. حيث إنها تقوم على الوهم وإنكار حقيقة الأشياء والشك في الحقائق التي تعارف عليها البشر.
السفسطائي إنسان انتهازي يحمل بين جوانب تصرفاته كافة مظاهر النفعية الذاتية ما يجعله يبلغ ذروة الأنانية والتجرد من كافة المشاعر الإنسانية.. فإذا كان زمن السفسطة قد اندثر منذ زمن أرسطو إلا أن أفكارها وأسلوبها لا تزال تفعل فعلها في عالمنا المعاصر، حيث وجدت مجالاً واسعاً يحتويها عند المجتمعات العربية وفي مجالات مختلفة.. من سياسية وإعلامية وثقافية...الخ. فالفكر السفسطائي ترك آثاره على العصور التي تلت ظهوره وصولاً إلى عصرنا الحالي.. وأصبح مصطلح سفسطائي يستخدم في العصر الحديث لوصف «المغالطة» بمعنى أي نقاش يسعى فيه أحد الأطراف للمراوغة لكسب النقاش باستخدام حجج وقرائن لا علاقة لها بصلب الموضوع، وذلك بقصد التضليل أو التأثير على عقلية المتلقي.
اليوم ومع انتشار وسائل التواصل بمختلف أنواعها أصبحنا نعيش في عالم مفتوح، عالم لا يخلو من فقاعات يصنعها أصحاب أيديولوجيات يعجز العلم عن برهان حقيقتها أو شرعيتها لكن تأثيرها يظهر من خلال نغمتها العاطفية وأسلوبها المحرك للنفوس الضعيفة وقدرتها على ترويج الأفكار المنحرفة، لا شك أن حضور وسائل التواصل الاجتماعي في عصرنا الحالي مع ما له من فوائد، فإن له تبعات وآثاراً كثيرة وجسيمة منها ما يتعلق بموضوع المقال الذي يتحدث عن السفسطة كشيوع المغالطات غير المنطقية في بعض نقاشات وسجالات متداولة في الفضاء الإلكتروني مع غياب البرهنة والقرائن والاستدلال القائم على الحجة المنطقية المقنعة.. وليس هناك أدنى شك بأنه إذا كانت درجة الوعي عالية كان الفكر المتزن هو المسيطر على الواقع ويوجهه بمختلف جوانبه بعيداً عن أي سفسطة.