أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبوعبدالرحمن: ما زلتُ في عزلة عن الأحباب منذ أن حلَّت بنا جائحة (كورونا)، وفي ذلك وجدتُ فرصة لاستعادة نشاطي وترتيب مكتبي وأعمالي ومراجعتها من تصحيح، أو إضافة، أو تقليب مصدر طال بحثي عنه، ولم أعلم إلا متأخراً بوفاة ثلة من الأحباب الأفاضل منهم الشيخ (عبدالعزيز بن إبراهيم الفاضل)، والأستاذ (محمد بن أحمد الشدي)، ومعالي الدكتور (محمد بن سعد الشويعر) رحمهم الله تعالى، وقدَّس الله روحهم، ونوَّر ضريحهم.. وليس أسفي أن كلمة رثائي تأخرت، وإنما أسفي أنني لم أعلم؛ فأحضر الصلاة عليهم، وتشييع جنازتهم رحمهم الله رحمة الأبرار، وجمعنا بهم في دار كرامته، وأعاننا على أنفسنا؛ لنسلك سبيل الهدى.. وعزائي لنفسي، ولأبنائهم وأسرتهم، ولكافة المسلمين، والحمد لله على كل حال، و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
قال أبوعبدالرحمن: تتابعت أحداث مفجعة بفقدان الأحبة، وكلما حاولت تجميع انفعالاتي بكلمة رثاء ومواساة فوجئت بفقد حبيب آخر، فضاقت دوني منادح القول، فآثرتُ الدعاء تخصيصاً وإجمالاً كلما تذكرت.. فمن الركائز الأدبية والثقافية التي فقدناها أستاذنا (محمد الشدي) رحمه الله تعالى؛ فكان بي حفياً، وكنا معاً في جمعية الثقافة والفنون، وفقد أمثاله يُعَتِّمُ أجواء النفس المشعَّة؛ لعلمه الجم وأدبه وشاعريته وريادته وتواضعه.
قال أبوعبدالرحمن: الأستاذ (الشدي) أديب ومثقف مخضرم عاصر الأحداث، وجدير أن تُسمى قاعة ثقافية، وتخصَّص الجوائز الأدبية باسمه.. وأجلُّ ما فيه البُعدُ عن المهاترات، وتنقُّص الآخرين، والتباهي بالعلم والأدب؛ وهي صفات نادرة في هذا عصرنا الحاضر.. وكان من أقدم أصدقائي، وترافقنا معاً مدة في جمعية الثقافة والفنون، فكانت مرحلة مشحونة بالمتعة والطرائف والأدب والذكريات.
قال أبوعبدالرحمن: أسأل الله تعالى أن يجعل ذريتهم خير خلف لخير سلف: يقتدون بوالدهم الذي فارق الدنيا بجسده، وعاش بين الناس بذكره الجميل.. هؤلاء جملة ممن هم في خاطري الآن ممن فقدتهم تباعاً في أيام قليلة متتابعة؛ وإذ ضاق مجال القول لرثاء كل واحد بقصيدة أو مقالة مدبَّجة: فإنني مستعيض عن ذلك بدعائي المتكرر لهم منذ بلغني خبر تقدمهم إلى الدار الآخرة، وهم في ذاكرتي دائماً أدعو لهم في كل مناسبة عموماً وتخصيصاً، والحمد لله على كل حال، {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
قال أبوعبدالرحمن: أوصي نفسي وأبنائي وأحبائي وشباب المسلمين عامة: أن أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأنه يؤمن بالله ويكفر بالطاغوت.. على ذلك يحيا ويموت إن شاء الله، وأوصي من يبلغه هذا الخطاب من أهله وذريته أن يصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين.. وأوصي بما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (سورة البقرة/ 132).. حفظني الله وإياكم من كل مكروه: فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده).. وهذا الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم عند من يحمله على الاستحباب دون اللزوم أصبح في هذا العصر من السنن المهجورة إلا ما شاء ربك.. ولقد تأملت وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر بالوصية؛ فوجدته علق ذلك بالحاجة؛ إذ قال: له شيء يوصي فيه، ووجدت الناس يُمْلُون وصياتهم عندما يحسون بمرض مخوف منه، أو مرض يترجح فيه اليأس، أو عندما يرد عليهم وارد من الله ينذرهم بالموت كرؤيا أو إحساس.
قال أبوعبدالرحمن: لكل المسلمين ثقافة مشتركة، وليست ثقافة تسلية، ولكنها ثقافة اعتبار وامتثال.. ومن ذلك قراءة أخبار خالق الحقيقة عن أحوال آخر الزمان قراءة تفقُّهٍ وفهمٍ ومقارنة بالواقع، وعلم من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأميته وأمية قومه، وأنه لا يملك وسائل علمية (ولا أحد من البشر غيره) لمعرفة ما سيكون بعد قرون؛ فنزداد إيماناً بأن انبهار مكتشف جزء من الحقيقة من البشر مسبوق بإخبار خالق الحقيقة والبشر؛ فلا نقع ضحية الإرهاب العلمي، ولا نكون من شرار الخلق آخر الزمان على غرة؛ بل نكون من الطائفة المنصورة، ويزداد إيماننا بالله وبكتبه ورسالاته.. ومن وصيتي لكم أيها الأحباب: التفقه في أخبار علاَّم الغيوب خلاَّق الحقائق سبحانه وتعالى في كتابه المنزل، وفي أقوال رسوله صلى الله عليه وسلم الذي بعثه على الناس كافة، ومقارنتها بأحوال الزمان لتقوية الإيمان والعبرة؛ فقد ثبت عن نبيكم صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يتقارب الزمان وينقص العلم).. رواه البخاري.. صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فبوسائل المواصلات الحديثة تقارب الزمان وطويت الأرض.. وأما نقص العلم فأنتم ترون من الشبيبة من يعرف عن (نزار قباني، وإحسان عبدالقدوس، وبرنارد شو، وشكسبير) ما لا يعرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وحملة العلم الشرعي كـ(الزهري، والبخاري، وأحمد)، وبعضهم لا يكاد يختم القرآن في عشر سنين مرة واحدة.. وما كان هذا مألوفاً في القرون المفضلة، وربما تلمظ بمضغ يحسبه أفكاراً من النبيوية أو الظاهراتية ... إلخ ... إلخ، وهو لا يعرف شيئاً من أصول الفقه أو علم الخلاف والبحث.
قال أبوعبدالرحمن: تذكرتُ قول أبي بكر محمد بن الحسن بن دريد رحمه الله تعالى:
وإنَّما المرء حديث بعده
فكُنْ حديثاً حسناً لِمَنْ وعَى
وقد تذكَّرتُ هذا البيت لما تلقيت الخبر الفاجع بوفاة الحبيبين (الفاضل والشدي) رحمها الله تعالى، وغفر لنا ولهما ولوالدينا.. وهكذا يكون ذو الجمال ذكراً جميلاً لدى الناس بالجملة، ومهما كانت لهجة المحبين بالثناء قوية فسيكون الواقع أجمل عند مَن لا يعرف المذكور إلا بالذكر.. ومَن فَقَدَ أُلاَّفَهُ تضاعفت حسراته.. وعلمي أنَّ الموت حق، وعزائي أن الفقيدان قرَّا عيناً بأبنائهما وذرياتهما، وعرف موقعهما في قلوب الناس؛ فالنَّفْسُ موطَّنة على حصول القدر الرباني حسب مجرى العادة، وممن يُغبط في مماتهما بمشيئة الله بشاهد الحال وشهادة المسلمين التي رتَّب الله عليها وعده المفرِح المبهج على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عندما قال عن الجنازة التي أثنوا عليها خيراً: (وَجَبَتْ)؛ فلما سأله عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن معنى ذلك قال: هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبتْ له الجنة.. أنتم شهداء الله في الأرض.. وفي رواية أبي الأسود رحمه الله فيما يرويه عن عمر رضي الله عنه، وكلا الحديثين في صحيح البخاري: الأول في كتاب الجنائز، والثاني في كتاب الشهادات: عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة ... إلخ).
قال أبوعبدالرحمن: وَعِظَمُ الأجر في هدوء النفس عند الصدمة الأولى، وواجب عند الصدمة وبعدها ترك الجزع والتلوُّم والدعاء بالويل؛ بل فعل ذلك محرَّم.. ولكن دمع العين، والحزن، وظهوره على الملامح من زيادة أجر المحتسب؛ فقد قضى أبوبكر الصديق رضي الله عنه بقية عمره أسيفاً حزيناً على فقده لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنه أشجع القوم عند الصدمة الأولى.. وعينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذرفتا حُزْناً وهو يخبر أصحابه رضوان الله عليهم باستشهاد زيد وجعفر وعبدالله بن رواحة رضي الله عنهم، ثم قال بعد ذلك عن الرواية: فأخذها خالد بن الوليد رضي الله عنه من غير إمْرة، ففتح له.. وذرفتا على ابنه إبراهيم حتى قال له عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه: أوَأنت يا رسول الله؟.. فقال صلى الله عليه وسلم: (يا ابن عوف: إنها رحمة).. ثم لما ذرفتا ثانية قال: (إنَّ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون).. وفقد الوالدين والولد قد يلازم حزنُه أشهراً، ثم يعاود اعتصارُه القلبَ خلال بقية العمر.
قال أبوعبدالرحمن: أعلم أنَّ أبناء (الفاضل والشدي) وبناته وحفدته وأسباطه وأبناء أخيه سيعيشون هذه الظاهرة؛ لأنَّ فقدانهما على البعيد فكيف بالقريب عزيز على القلب نسيانه.. ولقد ظهر للناس حزن رسول شهراً، فقد قنت عليه الصلاة والسلام شهراً حين قُتل القُرَّاء.. قال أنس رضي الله عنه: فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حزن حزناً قط أشد منه.
قال أبوعبدالرحمن: لا نُثني إلا بما علمنا، ولا نزكي على الله أحداً وهو سبحانه أعلم منا بأنفسنا وخفايا صدورنا، ولكنني ذكرت لكم سرَّ الثناء الواقعي فيما مضى بحديثي أنس وعمر رضي الله عنهما؛ فأفواج الناس شهود على كريم سجاياهما من التديُّن والسمت والوقار والرحمة للناس.
قال أبوعبدالرحمن: لقد لقيا رحمهما الله ربهما؛ فلهما إن شاء الله تعالى البشرى، ولنا البشرى بمآلهما؛ لأنَّ الثناء المتواطئ عاجل بشرى المؤمن في حياته، وعاجل البشرى لفاقديه المحزونين عليه باطمنئان قلوبهم على كريم غايته بمشيئة الله ورحمته.. وهذا اللقاء هو الذي أشار إليه لبيد ر بقوله:
وكلُّ امرئٍ سيعلم سعيَهُ
إذا كُشِّفتْ عند الله المحاصل
وأصدق من ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} (سورة العاديات/ 10).
قال أبوعبدالرحمن: وإنَّما المنغِّص الوحيدُ عليَّ أنني كنت حبيس جائحة (كورونا)، ولم أتمكن من تشييع جنازتيهما والصلاة عليهما، وإنني إن شاء الله معوِّض عن ذلك بالدعاء لهما بإلحاح الآن، وكلما مر ذكرهما العاطر في منتديات المجالس.. اللهم ارحمهما، وأكرم نزلهما، ووسع مدخلهما، واغسلهما بالماء والثلج والبرد، ونقِّهم من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.. اللهم أبدلهما داراً خيراً من دارهم، وجواراً خيراً من جوارهم، وأقر أعينهما بأهلهما في جنات النعيم بعد عمر مديد وحياة سعيدة تكسب عملاً صالحاً.. اللهم اجعل في ذريتهما الخير والبركة، وألهمهم الصبر والسلوان، وزدهم من نعمتك التي أنعمتَ بها عليهم من تواضع الصغير للكبير، وتآلف القلوب، والتسابق على ما توارثوه من الدين المتين، والطبع المشرق الخيِّر، والذكر الذي يفوح كأريج المسك.. وأخيراً أقول دعاءً ورجاءً لا تألُّياً كما قال عبدالله بن رواحة رضي الله عنه:
عليك سلام ربك في جنانٍ
مخالطها نعيمٌ لا يزول
.. (ديوان عبدالله بن رواحة ص132 في رثاء حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنهما)، اللهم آمين آمين آمين يا رب العالمين، وإلى لقاءٍ قادم إنْ شاءَ الله تعالى, والله المُستعانُ.
** **
كتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -