د.شريف بن محمد الأتربي
أطلقت المملكة العربية السعودية رؤيتها 2030، والتي من ضمنها التعليم، حيث تبنت الرؤية نظرة مستقبلية واعدة للتعليم في المملكة، تهدف إلى إعداد جيل واع مثقف، قادر على قيادة الدولة إلى أعلى الآفاق متسلحا بالمهارات والعلم والمعرفة، ومن أجل ذلك تم وضع خطة لتطوير التعليم، والاستفادة من التقنيات الحديثة، وكان فيروس كوفيد19 أحد أسباب تسريع وتيرة التحول نحو التعليم الإلكتروني والتعلم عن بعد، مما أتاح لوزارة التعليم فرصة ذهبية لعقد العديد من الدورات واللقاءات التي هدفت في مجملها إلى مواكبة وتحقيق أهداف الرؤية التعليمية.
ولتنفيذ ذلك سارع المسؤولون في الوزارة إلى مراجعة المقررات التعليمية والعمل على تطويرها واستحداث مقررات جديدة، ومن ضمن المقررات التي وُجدت ضمن الخطط التعليمية؛ مادة البحث ومصادر المعلومات، أوما كان يطلق عليها مادة المكتبة والبحث.
ولهذه المادة قصة طويلة، ففي عام 1412هـ أقرت وزارة المعارف آنذاك مادة المكتبة والبحث كإحدى المواد المقررة على طلبة المرحلة الثانوية بدءا من الصف الأول الثانوي، والثاني والثالث علوم إدارية، حيث شمل مقرر المادة مجموعة من المهارات المكتبية، والبحثية، ساعدت كثيرا من الطلبة على اجتياز مراحل التعليم الجامعي، وكذلك مرحلتي الماجستير والدكتوراة بسهولة ويسر متمتعين بخبرة ممارسة الكتابة البحثية واستخدام المصادر المتعددة، وكذلك مواجهة الجمهور.
وبعد أكثر من عقد تم إصداركتب رسمية للمقرر وتحولت من وريقات إلى ثلاثة كتب تضم الكثير من المعارف تبدأ بالمكتبات والمعلومات، وتنتهي بالبحث العلمي، وبينهما مهارات التفكير التي شغلت لب وعقل طلاب الصف الثاني الثانوي - مسار العلوم الإنسانية- ولي معها العديد من الحكايات أثناء تدريسي للمادة، وأتذكر منها تدريسي مهارة العصف الذهني Brainstorming، وهي عملية استحداث كمية ضخمة من الأفكار التي يتم إنتاجها من خلال عملية منظمة ذات قواعد واضحة، ويرتبط إيجاد هذه الأفكار وتدوينها بجعل العقل مُنفتحاً دون أي قيود تَحدّ من إطلاق العنان لقدرته على التفكير، فالعصف الذهني هو طريقة يُمكن اتباعها لاستنباط الأفكار أوحتى ترتيبها وذلك عند شعور الإنسان بعدم قدرته على إيجاد أفكار جديدة خلاقة أو عند افتقاره للإلهام الذي يجعله يستطيع الخروج بمثل تلك الأفكار، ولا يُعتبر العصف الذهني طريقة لإيجاد أفكار جديدة فقط بل هو إحدى الطرق غير التقليدية التي يستطيع الإنسان من خلالها إيجاد نقاط مُتخصصة تُشير إلى الموضوع العام الذي يُفكر فيه، فيُمكن اتباع هذا الأسلوب العلمي عند احتواء عقل الإنسان على العديد من الأفكار التي يرغب بتضييق نطاقها وتخصيصها أكثر فأكثر، أوحتى إعادة ترتيبها لتظهر بشكل مُفيد، أوحتى إيجاد العلاقة المُشتركة فيما بين هذه الأفكار بشكل يسمح للشخص البدء بالتخطيط السليم للمهمة التي يُفكر فيها، وللوصول إلى ذلك قمت بوضع سيناريو للحصة يتلخص في قيام مساعد أمين المكتبة بإغلاق باب قاعة التعلم التعاوني علينا أنا وطلابي ومن ثم الاختفاء عن الأنظار خلال هذا الوقت، وكانت الحصة الأخيرة في الدوام، وبعد أن شرحت المهارة وأهميتها، قمت بمحاولة فتح الباب أمام الطلاب لأجده مغلقا، ومن ثم بدأنا في طرح أفكار حل هذه المشكلة، والتي انتهت مع تعالي ضحكات الطلاب واستئناسهم ودقات جرس الحصة.
وفجأة تم حذف هذه الوحدة من المقرر بلا أي سبب وبدون سابق إنذار، ليفقد الطلاب متعة تعلم مهارات فعلية يحتاجون إليها في كل حياتهم وليس في مستقبلهم وعملهم فقط.
وفي عام 1430 هجرياً تقريباً تم إقرار نظام المقررات، وتحولت المادة من مادة إلزامية إلى مادة اختيارية للسنة المشتركة في المرحلة الثانوية، وأهملت تماما، وتم دمج الثلاثة مقررات السابقة لتصبح كتابا واحدا، مع إبقاء المادة في نظام التعليم العام العادي، والذي تحول بعد ذلك إلى النظام الفصلي، والذي تم إلغاؤه بعد ذلك لصالح نظام المقررات، والذي تم إلغاؤه أيضا لصالح نظام المسارات وهو لب حديثنا عن المادة.
ومن ضمن ما تقوم عليه فلسفة نظام المسارات، أهمية إنتاج الطالب للمعرفة وليس فقط تلقيها واستهلاكها، كذلك النمو المتكامل للشخصية، والتدريب على حل المشكلات، والتطبيق والممارسة، الاهتمام بالفروق الفردية للطلاب، أهمية النشاط والإبداع.
وفي نظام المسارات سيتم العمل على توفير تعلم متخصص يؤهل طلابه إلى المرحلة الجامعية بشكل أكثر احترافية، وأكثر تخصصا، وسيتم التركيز على مهارات القرن 21 والتي أطلقتها منظمة الشراكة من أجل تعليم القرن الحادي والعشرين، والتي تمثلت في ثلاث مجموعات تشمل: مهارات التعلم والإبداع (التفكير الناقد وحل المشكلات، الاتصال والتشارك، الابداع والابتكار). ومهارات المعلومات والإعلام والتقنية (الثقافة المعلوماتية، الثقافة الإعلامية، ثقافة تقنية المعلومات والاتصال). وأخيرا المهارات الحياتية والمهنية (المرونة والتكيف، المبادرة والتوجيه الذاتي، التفاعل الاجتماعي، التفاعل متعدد الثقافات، الإنتاجية والمساءلة، القيادة والمسؤولية).
ومن خلال خبرتي في مجال التعليم لما يربو على ثلاثين عاما وجدت أن كل مهارة من هذه المهارات تحتاج إلى عدة مقررات لتدريسها كمهارة، أو مئات الحلقات والدورات التدريبية لاستنباطها من داخل المقررات الأخرى، ووجدت أيضا أن مادة البحث ومصادر المعلومات- تلك المادة المهمشة بلا سبب- تستطيع أن تحقق كل هذه الغايات والآمال والأهداف بكل سهولة ويسر، ودون الحاجة إلى تعقيد؛ فقط يحتاج الأمر إلى إعادة بناء مقرر المادة -القديم والموجود فعليا- وإعادة دور معلم المادة وإعطائه التدريب والمساحة الكافية لتطبيق المهارات والمعارف الواردة في المقرر على مدى ثلاث سنوات، وسنجد -بإذن الله- في نهاية المطاف أن أهداف الرؤية التعليمية، وأهداف نظام المسارات قد تحققت، وأن طلابنا قد استمتعوا معنا برحلة تعليمية تنتهي بمشروع تخرج -في أي مسار من المسارات- يعرض على لجان نوعية متخصصة، وفي قاعات بحثية تشبه حلقات مناقشة طلاب البحث العلمي.
وأخيرا، أوجه ندائي إلى كل المسؤولين، أعيدوا لنا مادة البحث ومصادر المعلومات التي مرت بكم في مراحل تعليمكم الأولية، لنعيد معا بناء وتأهيل طلابنا لغد مشرق بإذن الله، ولنحافظ على هذه المادة التي تكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة.