د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
الحياة دائرةٌ أو مدار، وليست خطًا مستقيمًا أو مسارًا انسيابيًا، ولا طرفَ فيها أو حدودَ لها ولو خالفنا قواعد المنطق؛ فقد تسبقُ الخاتمةُ الابتداء، ويؤذن البدءُ بالمنتهى، وتتجدد أدوارُهما التبادليةُ في حركةٍ دائبةٍ تشبهُ أمزجةَ الصحارى وأمواج البحار.
** في الثمانين نستعيد العشرين، وفي هذه نتخيلُ تلك، وقد نتجاهل إقعادَ الشيخوخة وإيقاع الفتوة؛ فالسباقُ خارج الرقم، والتفسير يُعوزه الفهم، والمسبوق سيلحق، والسابقُ سينتظر، وإذ نُغفل البدايات ونغفر الإخفاقات - لجهلنا بها أو لقلة حيلتنا حينها- فإننا قادرون على صنعِ خواتيمنا أو توجيهِها.
** وإذن فالمتكّأُ في المسافتين الفاصلتين بين الحركة والسكون قدرةُ التأثير أو التغيير، وهي عمليةٌ عسيرةٌ في الإطار المعنويّ، وتتيسرُ لقلةٍ في المجال الماديّ، على أن حساب الخواتيم سيتجاوز الماديات إلى الأخلاقيات، وسوف يستعيد يقظو الضمائر في رحلة المدار الدنيويّ مسيرتهم: الظالمة المظلومة، الزاهية الزائفة، المانحة المانعة، النافعة النفعية.
** يبدو أن معظمَنا لا يخطط للنهايات مثلما يفعل مع البدايات، وهنا تختلطُ الرؤى بين ما تُسيّره الرياح فلا حول ولا طول إلا بمقدار، وبين ما ترسمه الخطى بإرادةٍ وإدارةٍ إذ لا عذر ولا انتظار، ولشاعر القطرين خليل مطران 1872- 1949م، وهو ثالثُ شوقي وحافظ، أبياتٌ تحكي بؤسَ آخر العمر بعدما أوهنه المرض، وتناساه الأصفياء، ولم يستطع أن يؤمِّن لبرزخه قبرًا فكان مدفنُه في مقابر «الصَّدقة»:
أحسنتُ ظنِّي والليالي لم توافقْ حسنَ ظنّي
ورجعتُ من سوقٍ عرضتُ بضاعتي فيها بغُبنِ
أفكان ذلك ذنبَها أم كان ذنبي؟ لا تسلني
خمدتْ بي النارُ التي رفعتْ بعينِ العصر شأني
ولَّى الربيعُ وجفَّ عُودي وانتهى عهدُ التغنِّي
فإذا تولَّينا فهل أسماؤُنا عنَّا ستغني؟
** لن تغنيَ الأسماءُ ولا الوسومُ لو قرأنا الدنيا بمنأىً عن أشكالِها وشكليّاتِها؛ فللدوائر حساباتٌ مختلفةٌ، وللمدارات مساراتٌ ثابتة، ومن يبني بيتًا في الرمال فلن يجدَ إلا «قبض الريح» وفق تعبير المازني - الذي توفي في عام وفاة مطران 1889- 1949م، وما أكثر قابضي الريح.
** والاستفهامُ المهم هنا: أين موقعُ ذوي الرأي داخل هذه الحكاية المورقة الجافة؟ وهل لهم إيقاعٌ يُسمَعُ أو يُسمِع؟ نظريًا: نعم، وواقعًا: نحتاج إلى دراسةٍ منهجيةٍ كي تُعرفَ مساحةُ حراكهم قبل أن يتأكدَ أو ينتفيَ حجمُ تأثيرهم.
** والأهمُّ قبل هذا وبعده أننا - حين تنكفئُ أعمارُنا صوب المغيب - قد نُفاجأُ بحسابات الحقل والبيدر؛ فإذا الأول ممتلئٌ والآخرُ فارغ؛ فلماذا نتحسرُ على ما أضعناه في عبثيةِ الركض؟ وهل لنا قسمةٌ في منهجية الفرض؟ وكيف تساوقْنا مع إغراءات السَّراب وتناسينا موعدَ الحِساب؟
** في المجتمع الرؤيويّ استعلاءٌ واستعداءٌ ممن لا يوقنُون أن الكلمةَ وعاءُ الحقِّ، والنزيهَ ضميرُ الحقيقة، وإذا كان المتنبي قد عدَّ «عداوة الشعراء بئس المقتنى» فإن صداقتَهم وأمثالِهم ليست بأحسنَ حالا.
** المحاسبةُ رهانٌ وبرهان.