وسط هذه الأجواء التي ما زال يخيم في سمائها أثر الوباء العالمي داء العصر المستجد كوفيد 19 تنفسنا الصعداء مؤخراً ونحن نعود للحياة الطبيعية تدريجياً وبحذر بتكاتف وجهود مضنية ملموسة بين وزارتي الصحة والتعليم شعرنا بالارتياح وبعض القلق داعين الله أن يبعد عنا شر هذا الداء ويشفي مرضانا ويرحم من فقدنا منهم.
منذ بداية الجائحة لم ينقطع الخط التعليمي يوما أو يتعثر ولو واجهته بعض الصعوبات، فالطلاب مع معلميهم عبر منصات (مدرستي) المذهلة المتجددة يستمعون ويتفاعلون ويعبرون عن آرائهم بكل شفافية ووضوح، فقد ذللت الصعاب وفتحت آفاق جديدة أمام الجميع سواء من ناحية ربط الطلاب بالدرس أو اليوتيوب أو عبر قوقل وغيره من متصفحات البحث، ولكوني واحدة من أفراد الكادر التعليمي فقد استمتعت كثيرا وحلقت مع الطالبات بطرق متجددة متنوعة المصادر، ومن جرب تلك المنصات يدرك معنى كلامي ويشهد لمن أوجدها أو طورها بالجهود الجبارة وإن كان هذا لا يصل لدرجة الإتقان كما كان التواجد حضوريا ملموسا، لكنه وبجدارة سد النقص والثغور المتوقعة كانت تتهاوى وتتلاشى مع الوقت.
حقيقة لم يدفعني لكتابة هذا المقال الحديث عن هذا الموضوع تحديدا أو تسجيل ما حققته المنصات من نجاح باهر، فهو جهد ملموس كما تعلمون، أحببت فقط الإشادة به من باب الشكر والثناء وأن أتخذه كنافذة أسلط بها الضوء حول تجربتي مع طالباتي أود بكل حب تقديمها لإخوتي وأخواتي المعلمين والمعلمات لكسر الجمود وتحقيق الفائدة، لعلهم يجنون ثمارها ويتذوقون شهدها الذي تذوقته.لن أمدح نفسي وأقول إنني متميزة وحدي فغيري من الزميلات قد سبقنني وتفوقن علي بأمور ومهارات لا حدود لها،ولكني كبقية الناس الذين بفطرتهم يمقتون التكرار ويجاهدون أنفسهم في سبيله، فمع سمو رسالة التعليم إلا أنها شاقة نفسيا وبدنيا، قد تجد نفسك كالببغاء الذي يكرر حديثه بين صف وآخر فيضيع بعضه أو تفقد حلاوته.
ذات يوم كنت أتصفح كتاب (المهارات اللغوية) وهو مادة اللغة العربية للمرحلة الثانوية والذي تقلص كثيرا، فأجد كفاية النحو والإملاء والكتابة هي إجبارية لتجويد اللفظ والكتابة والقراءة الصحيحة، وهي مهارات واضحة لها قواعدها الخاصة بها أما الكفاية القرائية فقد أنهكتني كثيرا بالبحث عن قالب يليق بها لتكون محببة للطالبات، ولحبي الشديد للقراءة لاحظت عدم إقبال كثيرات عليها، بل خوف ورعب منها فهي ثقيلة لا ضرورة لها.
خيمت الفكرة برأسي فأنا لست مجرد معلمة أنا كاتبة مقالات متعددة بالصحف منذ زمن وروائية صدر لي روايتان وقصص قصيرة متناثرة بعدة صحف، كيف لي أن أرضى بدور الملقن فقط.
أين المتعة إذا لم أحول إحدى محطات الكتاب لرحلة ترسخ بالذاكرة وأكون اسما محفورا بذاكرتهن فلا فائدة مما أمتلكه وأتميز به.
بدأت الخطة واستمرت لعدة أعوام من نجاح للآخر أذهلني وشجعني لأستمر، فقد حددت درجات خاصة لتنفيذ الفكرة اختيار كتاب مفيد أكون قد وافقت عليه مسبقا لا يتصادم مع الفكر والعقيدة والسياسة، أعطيهن من بداية العام فرصة قد تمتد لأسبوعين كي تبحث وتحدد الكتاب الذي تريده،ثم يكون لها مرافقا طيلة الفصل الدراسي بحيث تقرؤه على مهل،وتلخص أبرز أفكاره وتختار منه ما يعجبها، وبوقت معين يتم عرض الكتب شفويا كل واحدة تسرد ما كتبته أو التقطته وتوصلت إليه من ذلك الكتاب، كانت عبارة عن فعالية بعنوان (أنا وكتابي) لن تتخيلوا مدى المتعة والسعادة واللهفة التي تشعر بها الطالبة بعد وخلال ذلك، ولا أبالغ إذا قلت إنهن ينتظرن هذا اليوم بشغف وحماس داخل كل صف دراسي نتعرف على مايتعدى الثلاثين كتابا على فترات متقطعة، والتعليقات حول الكتب تنهال من كل جهة سلبا وإيجابا تعرفت عليهن من خلال تلك الفعالية القرائية الجميلة، وللآباء والأمهات دور كبير في ذلك حيث يساهمون أحيانا في الاختيار والمساعدة في إبداء الرأي، وبعضهن والدها أو أحد أفراد أسرتها هو المؤلف لذلك الكتاب، من خلال تلك الحوارات واللقاءات تعرفن على الكتاب والروائيين والعديد من الكتب والمقولات الفريدة والخالدة والشخصيات الريادية والعصامية التي ساهمت في تغيير وجه البشرية من القبح للجمال من الظلام إلى النور، لابد من فتح نوافذ جديدة حول الطلاب تشد انتباههم المركز على بعض وسائل التواصل المتهالكة والتوافه من المشاهير الذين صنع لهم الفراغ النفسي والخواء العاطفي لدى الكثير منا ومن أبنائنا مجالا رحبا ليشكلوا عقول الناشئة والكبار كما يشاؤون.
نستطيع نعم نستطيع ملء فراغهم بوجبات شهية وجرعات ثقافية تصنع أدمغتهم ليكونوا رجال ونساء المستقبل، ليس عن طريق الكتب فقط فهي نموذج ومثال فهناك الفيديوهات الوثائقية والمقاطع الملهمة ومواقع الكتب المسموعة والبودكاست المنوع دينياً أو نفسياً أو أدبياً أو لغوياً والكثير الكثير مما لا يعد ولا يحصى عبر الإنترنت عربيا وعالميا.
المطلب هو اكتساب المهارات وتوسيع دائرة المعرفة لديهم، وعندما يكون الموجه لهم قائدا أو معلما يكون لها قبول وتقبل خاص، فقد تجد في نفس الطالب رغبة وميولا فينميها ويسعد بها، كإحدى طالباتي- وفقها الله- عندما فاجأتني بعد سنوات من تخرجها بطباعة كتابها الأول وكانت أول نسخة سلمتها لي بإهداء أسرني وأسعدني عندما قالت أنت من دفعني لإصدار هذا الكتاب فشكراً لك.
وقد لا تجد بنفس الطالب ميولا وإقبالا لكنه سيكون بلا شك مستمتعاً بما يسمعه من زملائه من معلومات وقصص وو ... إلخ خارج المنهج الذي لا يطيقه، وقد يكون الدافع للإنجاز بكل الحالات هو جني الدرجات، وهذا من حق الطالب المجتهد بلا شك، لكني على ثقة أنهم لن ينسوا عبارات الثناء وتلك المواضيع والنقاشات الجميلة التي أطلقت عقد ألسنتهم وحررتهم من الخجل وتعرفوا من خلالها على الكثير الذي كان بعيداً عن مشوارهم التعليمي المعتاد.
ستمر السنوات ونحن نجوب الطرقات يوميا لأداء العمل، فما المانع من التغيير وإدخال المرح والمتعة والفائدة لتلك العقول الفتية المثقلة بمواد علمية دسمة وحفظ معلومات مكررة قد تنفرهم من التعليم بأكمله. والأهم ترك الأثر الذي تنال به دعوة أو ذكرى طيبة تتركها بعد تنحيك عن مقام المعلم.
جعلنا الله ممن يذكرون بالخير وينفع الله بهم.