علي الخزيم
قيل على سبيل التشبيه: لسانه يَقْطر شهداً، أو لسانه أحدُّ من الخنجر، فمن عُرف بكلماته العسلية الراقية قد تَفلت منه بحسن نيَّة كلمة أو بيت شعر يكون قائده إلى القبر، والكلمات غير المُتَّزنة أو التي يمكن تفسيرها بوجه آخر لا يليق بمقامات المُخاطَبِين هي بمثابة الطعنة بخاصرة الأصحاب والجلساء دون قصد، وقد تتحوّل ضد قائلها لتقرّر مصيره ضرباً أو سجناً وربما قتلاً، وقالت العرب سقطات اللسان كسرها لا يُجبر، وهم من قالوا: مقتل المَرء بين فَكَّيه، كما أكدوا مراراً أن أحق شيء بالحبس هو اللسان، ذلكم أنهم أدركوا - وهم أهل الفصاحة والبلاغة وسادة الأدب والشعر - أن شهوة الكلام قد تطغى على رغبات من لا يجيد أدبيات الحديث من المتشبثين بالتقليد؛ محاولة منهم للارتقاء بأنفسهم وعسرها لتعويض فراغات نفسية تُشعرهم بضآلة أحجامهم أمام القامات من فصحاء الألسنة شعراً ونثراً وخطابةً وحكمةً وبُعد نظر بمقاصد القول ومراد الكلمة التي تنطلق بها ألسنتهم كسهام لا تخطئ، وبهذا المعنى من الشعر الشعبي قول راكان بن حثلين:
(ما قلّ دلّ وزبدة الهرج نيشان
والهرج يكفي صامله عن كثيره)
والصامل هنا تعني الكلام المُختصر المُركَّز بما لا يحتمل التأويل ويليق بمقام وفكر المتلقي.
وقصص الشعراء والندماء الأوائل تتحدث عن وقائع لسقطات أوقعت أصحابها بالمهالك، فمنهم من كان قاصداً لكنَّه لم يتوقع الأسوأ؛ وخدعه حدسه بأن الأمر قد ينتهي إلى مجرد اللوم؛ وإن زاد فالتوبيخ، وبأقصى حد الحبس أياماً أو خيزرانة عاجلة على أسفل الظهر! غير أن الموقف يتطور أحياناً إلى تَدَخُّل الخصوم والمنافسين والوشاة ليوغروا صدر صاحب الشأن والأمر لتكون النهاية مأساوية تُسكت صوت الشاعر إلى يوم الحشر، ومنهم من لم يَكُن يقصد الإيذاء والهجاء والتعريض لكن مفرداته فُسِّرت بما يتفق مع حادثة أو موقف لأحد الذوات أو المنافسين فتُستَغل ضده للتأليب عليه ليلقى جزاء ما لم يكن يقصده بشعره، فملكات الإبداع عند كثير من شعراء العصور وأدباء تلك الحُقَب تدفعهم إلى التجديد والتحديث بالأغراض الشعرية والنثرية وتناول تفرّعات من الثقافات وربما التشريعات القَبَلِيّة أو الدينية، أو يتطرقون لأحداث ومواقف تتعلق ببعض الولاة والحكام بما يُعد أو يُفسَّر بأنه تعريض بهم أو انتقاص لمواقفهم ومواجهتهم لتلك الأحداث، وتختلف ردَّات الفعل عند أولئك الخاصة فمنهم من يرتقي إلى تَفَهُّم أغراض الشاعر ولا يلتفت للوشاة، ومنهم من يُصغي للمُغرِضين أو تغلبه قناعاته لاتخاذ المناسب من العقوبة.
طَرَفة بن العبد قاده إبداعه لمجالسة الملوك ومنادمة الكبراء قبل الإسلام، له معلقة جزلة كأجود المعلقات، أهلكه شعره قبل الثلاثين من عمره بسبب جُرأته على عمرو بن هند بأبيات لا تليق بالأمير المُهيب فكان سبب مقتله! وما يُعرف بالقصيدة اليتيمة بمدح الشاعرة الأديبة الفاتنة النَّجدية (دعد) وما كان من الشعراء المتنافسين للزواج بها، وانتحال أحدهم قصيدة الآخر ليلقى جزاء كذبه قتلاً، والأمثلة كثيرة بالأدب العربي لمن أودت كلماتهم بحياتهم ولسوء تقديرهم لعواقب إطلاق اللسان دون ضوابط وتناسيهم قول العرب: (لكل مقام مقال)!