د.فوزية أبو خالد
بقدر ما يعجبني الأدب الإيراني من أعماق التاريخ جلال الدين الرومي حافظ الشيرازي عمر الخيام برمزيتهم الفلسفية والشعرية في التعبير عن طيف عريض من المبدعين الإيرانيين بما فيها الأعمال الأدبية المعاصرة لأجيال جديدة من الكُتَّاب والكاتبات مثل آزار نفيسي شيرين عبادي برمزيتهما في الخروج على ظلامية السلطات الطائفية، بقدر ما أشعر بحرقة الأسئلة عن العلاقة بين حيوية الثقافة وبين جمود الأيدولوجيا الأحادية.
وبقدر ما أكن حباً لقصائد الشاعرة فروخ فرخزاد وأحمل إحساساً بمشتركات معرفية عميقة مع أكاديميين إيرانيين كبار مثل برفيسور محمد أسعد نظامي -رحمه الله - وزيبا مير حسيني من جامعة ساوس البريطانية وسواهما، بقدر ما تزيد فجيعتي من التنكيل الذي يمارسه النظام السياسي الإيراني ضد شعبه وضد أطياف من المثقفين الإيرانيين وضد جواره الإقليمي والعربي تحديداً،
لا أدري كيف يمكن لمأساة شعب تعيش فئات واسعة منه قرب خط الفقر أو تحته ويعاني فجوة عميقة بين مناطق الريف والحاضرة وبين الإنفاق على التسلح والإنفاق على الخبز والصحة وتخضع فيه حرية الرأي وحق التعبير بما فيها الإنتاج الأدبي والسينمائي والثقافي عموماً لمقياس الرقابة القاسية والمصادرة لكل ما يخالف التوجه الأيدولوجي والسياسي الرسمي للنظام الإيراني، أن تتوارى عن أنظار العالم وأن تعمى عنها منظمات حقوق الإنسان الدولية الرسمي منها والأهلي لولا نجاح ذلك النظام المنغلق في إخفائها خلف واجهة العمل العسكري المستعر الذي لم تكف ميليشياته عن شب نيرانه في دول الجوار منذ اللحظات الأولى لظهور ما يُسمى بالثورة الإسلامية المتمثلة في نظام حكم ثيولوجي طائفي معاد لأرضه وشعبه ولمحيطه الإقليمي.
وإذا كان التاريخ الحديث بين إيران وجوارها الإقليمي العربي والخليجي والسعودي تحديداً لم يخل من التوترات السياسية منذ عهد الشاه في القرن العشرين بما أدى للمعاهدة السعودية الإيرانية عام 1929 ، فإن ذلك الخلاف بقي في الحيز السياسي وبقي قابلاً للاحتواء الدبلوماسي إلى حد بعيد باستثناء التصعيد الإيراني للعام 1971 الذي أدى لاحتلال إيران لعدد من الجزر الإماراتية بعد انسحاب بريطانيا منها بما كرّست ثورة إيران الإسلامية بنظامها الطائفي أطماعها فيه بعد سقوط الشاه، بل عملت شيئاً فشيئاً على توسيعه ابتداءً من افتعال الصدامات مع السعودية في مواسم الحج مروراً بحرب الخليج الأولى وليس انتهاءً بذروة التصعيد العسكري بتدخلها عبر ميليشياتها المسلحة في أربع عواصم عربية وباعتداءاتها العسكرية المتكررة من خلال ميليشيات الحوثي باليمن على جوارها السعودي.
وإذا كان عدد من الدارسين والباحثين يرون أن نظام إيران الطائفي يعتمد في تماديه على اللعب بالنار في المنطقة العربية على طبيعته الانعزالية وتركيبته الطائفية من ناحية، وعلى الاختلال المخل في ميزان القوى العسكري لصالحه خصوصاً بعد سقوط العراق تحت سطوة الاحتلال الأمريكي وتداعياته وبعد تشرذم النظام السياسي العربي إثر اختطفات الربيع العربي وتداعياتها، فإن تماديه في الجوار الخليجي ومحاولة تحرّشه العسكري بالسعودية يراهن رهاناً غير مضمون العواقب متمثلاً في محاولة اللعب على الخلافات السابقة بمجلس التعاون الخليجي واستغلالها ومتمثلاً بشكل أكبر خطورة عليه في الرهان على سياسة الصبر السعودي الجميل تجاه أطماعه السياسية والعسكرية البواح في المنافسة على القيادة الإقليمية للمنطقة.
والواقع أن نظام إيران الطائفي سواء صنع خيال هذه الأطماع السياسية والعسكرية لقيادة المنطقة باللعب التخويفي على الوتر القومي بمعناه العرقي العنصري الشوفاني الفرس/ العرب أو سواء صنع هذا الخيال الاستحواذي المريض باللعب التحريضي على الوتر المذهبي التعصبي المقيت الشيعي/ السني، أو حتى لو حشر نفسه في زاوية خلافات الأوبك وادعاءات مناصرة القدس وما إليه من مشتقات ألعاب الخفة لصرف البصر السياسي المحدود عمَّا يشعله من حرائق عسكرية ماحقة في هذه المنطقة الحساسة والمهمة للعالم أجمع، فإنه لا بد أن يصل لتلك النتيجة المنطقية البديهية وهي أن هذا المنطقة عموماً ومنطقة الخليج والسعودية على وجه التحديد من موقعها القدسي كقبلة للمسلمين بشيعتهم وسنتهم معاً، ومن موقعها الاقتصادي النفطي والاستثماري ومن موقعها الجغرافي والحضاري كجسر شرياني بين الشمال والجنوب وبين الشرق والغرب ليست لقمة سائغة في القرن الواحد والعشرين خصوصاً لمثل هذه المطامع الطائفية الضيقة ولمثل هذا التوجه الثيولوجي الأحادي.
غير أن السؤال الصعب هو: كيف لنظام عنصري طائفي انعزالي متعال مثل النظام الإيراني أن يصل لمثل هذا النتيجة؟
والجواب ببساطة مربكة أن الوصول لمثل هذه النتيجة لن يكون إلا بمثل إيقاف برنامجه النووي، أي إما أن يأتي طوعاً أو كرهاً.
فإما أن نملك من أوراق المصالح المشتركة البواح ما يجعل هذا النظام المتطاغي يجنح للسلم ويأتي لطاولة الحوار طوعاً، أو نملك من القوة ما يرده لصوابه كرهاً.. أما أنصاف الحلول فلن تحررنا من الحروب ولن تعطي المنطقة السلام المنشود.