فقدان الأحبة من أعظم الرزايا التي يصاب بها الأحياء، خاصة إذا كان سبب الفراق من الدنيا الموت، إذ هو أشد إيلامًا على النفس، كيف لا وفيه يتجرع الإنسان مرارة الفقد وأي فقد، فقد جنة الدنيا (الأُم) التي رحلتْ عن دنيانا الفانية بعد أن غيَّبها الموت، وبعد أسى الفراق تمالكتُ نفسي وقررت أن أكتب عن (أمي) التي فقدتها والتي كان طيفها يلوح في ناظري كشريط الذكريات فيه كل تفاصيل الحياة معها، وأصدقكم القول إن يدي كانت ترتعش كلَّما أمسكت القلم، فأي مفردة مهما كانت بلاغتها هي الأحق في رثاء تلك الأم العظيمة، وأكاد أجزم أن لا حرف سيكون أبلغ صدقًا، وأشد تأثيرًا من حرف يكتب فيه الابن مقالاً يرثي به أحد والديه، وخاصة أمه الحبيبة التي تعني له ولإخوته وأخواته الحياة بأكملها، كونها أكسجين الحياة لهم وإکسيرها، ولأن بيتها في حياتها كان بمنزلة الفسطاط، الذي كان يجمع أفراد الأسرة كافة، من الأبناء والأحفاد، والأقارب الذين يزورونها ويتحلَّقون حولها لتعطيهم من فيض حنانها، فيكون لهم بلسمًا شافيًا تزول معه همومهم كافة، ومَنْ مِنَّا لا يعرف دور وأهمية الأم الحنون، لأولادها، فهي الحضن الدافئ لهم بل أعظم من ذلك كونها تمثل الرقم الصعب الذي من دونه لا يستقيم العدد، لذا كان حاجة الكبار لها أكثر من الصغار، وأجزم أن الرجل يظل طفلاً حتى تموت أُمُّهُ فيشعر باليتم، فالأم طيف لا يغيب حتى لو غابت ووسدت الثرى. وقد ودعنا بالأمس القريب أنا وإخوتي وأخواتي وأخوالي وأقاربي والدتي الغالية الصابرة المحتسبة منيرة بنت محمد بن عبدالمحسن الفالح (أم أحمد رحمه الله) وألقينا عليها النظرة الأخيرة، وطبعنا على جبينها الطاهر قبلة الوداع، قبل أن تغادر دنيانا الفانية، إلى رحمة الله ومغفرته ورضوانه. ولا شك أن من يعرف أمي يعرف أنها مدرسة في التربية والبر والإحسان وصلة الرحم، حيث كان لها دور في تربيتنا صغارًا وكبارًا بحسها الندي، وحضورها القوي، وابتسامتها الصافية، وروحها الطيبة، وعطائها الذي لم ينضب حتى بعد أن أقعدها المرض ولازمها لسنوات طويلة عانت معه وصبرت وصابرت التخفي عنا آلامها وأوجاعها لتكون كالسحابة الممطرة حولنا ومعنا محبة وبرًا ورحمة وعاطفة جياشة يسع قلبها الكبير للصغير والكبير، وكم هو مؤلم وقع فقدان الأم الذي لا يمكن تعويضه إذ إن فقدها فقد للحب والحنان والعاطفة والأمان، ورحيلها جرح غائر في سويداء القلب المكلوم، كيف لا؟ وأنت تشاق لروح لن تعود،، إذ لا طعم ولا هناء للحياة بدونها وبأنفاسها الزكية، وبنقاء روحها وطبعها وما تحمله من صفات امتازت بها طوال حياتها، إذ لا تحمل في قلبها إلا الحب للجميع، وهي من الأمهات الأوائل من الرعيل الذي كابد الحياة وخبر تقلباتها، ولم تتأثر بالفتن أو مغريات الحياة، عاشت في بيتها منذ زواجها حتى مماتها بصمت الحياء، عابدة ناسكة وامرأة صالحة تحث على الخير، ذات بر وصلة يعرف ذلك عنها البعيد قبل القريب، تسترت بالعفاف، وعملت بيدها في كل شؤون بيتها وأولادها لا تكل ولا تمل، كانت مصدر ارتياح وأنس للجميع، بما عرف عنها - رحمها الله - من عطف ورعاية ولطف ومحبة في التعامل وحسن تصريف الأمور، كما أنها كانت حازمة معنا وخاصة في المواقف التي تتطلب الحزم والمتعلقة في أداء الصلوات الخمس جماعة في المسجد وعدم التهاون بها، والحث على صلة الرحم وزيارة المريض والسؤال عنه، وكان للجيران نصيب من برها بهم، وكان أسمها (منيرة) اسم على مسمى حيث أنارت لنا مع والدنا -رحمه الله- دروب الحياة، واستمرت على النهج ذاته بالتربية والتوجيه والرعاية بعد وفاة والدنا الذي سبقها للدار الآخرة قبل خمسة وعشرين عامًا، وكانت بحق الأم الرؤوم، إذ كان لها الفضل -بعد الله- في اجتماع جميع أبنائها وبناتها حولها يوميًا عصر ومغرب كل يوم وبشكل يومي منتظم، تسأل عن من يتأخر عنه، بل إن أحد أولادها لا يستطيع أن يغيب يومًا إلا ويستأذن منها محبة بها وشفقة عليها، وهو ما يدلل على رغبتها -رحمها الله- في تقوية أواصر الأخوة بيننا والتلاحم والتواد والمحبة والتآلف ونقل ذلك بالإيحاء والقدوة للأبناء والأحفاد -وتم لها ذلك بفضل الله ومنته- إذ حرصت مع الوالد -رحمهما الله- أن نبني بيوتنا متجاورين وفي حي واحد من شدة إشفاقها ورحمتها بنا، إذ إن قرب منازلنا سيكون سبباً قوياً لصلة الرحم، فكان بيتها يتوسط بيوتنا جميعًا وكان لها ما أرادت، فكان مجلس الوالدة سمة بارزة يحرص الصغير قبل الكبير على حضوره وبشكل معتاد، وتلك عادة أسرية اعتاد عليها الجميع، فكان لها الفضل بعد الله في ترسيخ تلك العادة الجميلة وتأصيلها في نفوس أبنائها وأحفادها وبشكل يومي منتظم. ونسأل الله أن تستمر تلك العادة برًا بها وعملاً صالحًا نتقرب فيه إلى الله لزيادة حسناتها، والأُخوة هي من أقوى عرى المحبة.
إن عظمة الأم ربما لا ندركها وندرك حقيقتها ونحن أحياء، إذ بوجودها معنا وبيننا ربما تمر سحائب لا ندرك معها المعنى الحقيقي من وراء وجودها ونحن نركض في دنيانا الفانية وحياتنا العابرة، إذ مهما بلغت بك درجات البر والإحسان لن تعرف لها هذه القيمة التي منحها الله تعالى إياها إلا عند فقدها، فما أقصر الحياة وأهوها عندما يفقد المرء والداه. رحم الله أمي المرأة الصالحة الصابرة الباذلة، الأم الاستثنائية في حياتنا كلنا، وما دامت رحلت فلا نقول إلا ما يرضي ربنا عز وجل، إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن وإنا على فراقك يا أماه لمحزونون.. راضين ومسلمين بقضاء الله وقدره، عزاؤنا أنها رحلت إلى رب غفور، ووفدت إلى رب رحيم ما عنده خير لها من الدنيا وما فيها، أسأل الله أن يجمعنا بها ووالدي وأخي أحمد -رحمهم الله جميعًا- في دار كرامته، ومستقر رحمته. وأخيرًا وصيتي لنفسي وإخوتي أنه إذا أغلق باب فقد فتحت أبواب ببرها والإحسان إليها والدعاء لها والاستقامة على الطاعة، والالتزام بنهجها، فكل ذلك ينفعها، رحمها الله رحمة واسعة ورفع درجتها في علييّن وأسكنها الفردوس الأعلى من الجنة وجزاها عني وعن إخوتي وأخواتي خير الجزاء، كما أسأله أن يكون ما كابدته من مرض كانت معه صابرة غير شاكية كفارة لها، {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، ونسأل الله أن يجمعنا معها في دار كرامته ومستقر رحمته، وصدق من قال:
هي الأم نبراس الحياة وضوءها
إذا ارتحلت يأتي الظلام على الوعد
إذا قلت (يا أمي) بكت كل أحرفي
على فقد من كانت يؤرقها فقدي
والحمد لله من قبل ومن بعد.
** **
- بقلم ابنها: فهد بن عبد العزيز الكليب