تمضي بنا الحياة بما قدره الله لنا من خير وسعادة وألم وفقد، ويبقى الموت هو الحقيقة الأشد قسوة التي تعصف بقلوبنا وعقولنا ومشاعرنا وأفكارنا، والموت المفاجئ الذي يتخطف أحبابنا يشكل صدمة عنيفة قاسية مؤلمة ومؤذية.... ولكن أمر الله جلت قدرته أكبر وأعظم وأقوى وأمضى من كل القوى والعلوم.
فقدتُ، وفقدت أسرتي الغالية قبل أيام أحد أفرادها الكبار -الأخ والصديق الغالي عبدالله بن محمد العذل- والذي كان -رحمه الله- يتمتع بمزايا وصفات كثيرة وجميلة ومشرقة, وفجاءة هذا الفقد جعلت كل فرد في الأسرة يصاب بألم وحزن عميقين....
وبالرغم من فقدنا لأبي خالد الأخ العزيز والصديق الغالي والرفيق الحبيب, إلا أن عزاءنا أنه ترك إرثاً كبيراً من المحبة في قلوب الناس, وثمانية نجوم سيحملون من بعده إن شاء الله رايته ووطنيته وإخلاصه وصبره ونبله وشهامته وكرم أخلاقه.
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها
الا التي كان قبل الموت يبنيها
غاب الإنسان الفاضل أبو خالد عن دنيانا، وفقدنا بغيابه مناقشاته الموثقة, ومداخلاته المهذبة، ورواياته الصادقة. إلا أن شمسه الدافئة لن تغيب بإذن الله عن عيوننا وأذهاننا ومشاعرنا... وسيبقى معنا، وستبقى روحه وذكراه مضيئة وسط مجالسنا أينما ذهبنا وإلى أن يأتي يوم الرحيل.....
سنردد وهو في رحاب الله أجمل أناشيد وفائه وكرمه، وأروع صفاته وفضائله، وسنعزف على أوتار ذكراه أعمق مشاعر وطنيته وإخلاصه، وسنستعيد قصصه ومناقشاته وأفكاره.
يا صاحبي قد تركت الدنيا مغترباً
والصحب والأهل والجيران والبلدا
منذ أن قامت وتعمقت علاقتي الشخصية بأبي خالد قبل نحو أربعين عاماً وحتى آخر اتصال هاتفي معه وهو في مدينة «لوس أنجلوس» في 18/8/2021 م وأنا لم أسمع منه كلمة جارحة أو نابية في حق أحد، بل كان -رحمه الله- رقيق الكلمة, لطيف الرأي، مهذب السلوك, شفاف الفكر والتفكير.
كان عميقاً عميقاً في حبه ومحبته لأسرته
كان نبيلاً نبيلاً في سلوكه وأخلاقه
كان مهذباً مهذباً مع أحبابه وأصدقائه
كان وطنياً وطنياً مؤمناً بمستقبل وطنه
كان رائعاً رائعاً في بذله وعطائه
إن الحياة قصيدة أبياتها
أعمارنا والموت فيها قافية
حينما وردتني رسالة أخي الفاضل عبدالعزيز العذل ظهر يوم الثلاثاء 24/8/2021 م يبلغني فيها أنه سيغادر إسبانيا متجهاً إلى لندن ليكون إلى جانب شقيقه عبد الله الذي أصيب «بوعكة» أدخلته العناية المركزة.... أخذتني تلك الرسالة إلى نفق مقلق ودفعتني للاتصال هاتفياً بالابن فيصل المتواجد مع والده في المستشفى لعلي أجد كلمة مطمئنة ولكن اتصالي نقلني إلى نفق آخر مظلم ومخيف......
مرت الساعات ثقيلة طويلة مقلقة مليئة بعشرات الأسئلة.... إلى أن وردني ظهر يوم 25-8-2021 م بأن قضاء الله جلت قدرته قد نفذ وأن الأخ والصديق والحبيب عبدالله أصبح في رحاب الله.
نزل خبر وفاة أبي خالد علي وعلى أسرتي كالصاعقة وأنا الذي كنت أقنع نفسي بأنها وعكة عارضة وسحابة صيف ستزول بحول الله وماهي إلا أيام وننعم بوجوده بيننا نناقشه ويناقشنا ويحدثنا عن آخر أخباره وأحدث الكتب التي اطلع عليها في رحلته. ولكنه أمر الله الذي لا راد لقضائه سبحانه وتعالى.
إنما الموت منتهى كل حي
لم يصب مالك من الملك خلدا
سنة الله في العباد وأمر
ناطق عن بقايه لن يردا
كان رحمه الله يردد من وقت لآخر بأن الله أكرمه بالصحة والخير والحياة الجميلة.. وهذا ما جعله يتنفس براحة تامة مع أسرته وأحبابه وأصدقائه, ويعمل على تحقيق أحلامه في الحياة.
كان محباً للحياة، وجمال الحياة....
لم ينقطع يوماً عن العطاء......
لم يقصده أحد في أمر إلا وسعى لتلبية طلبه وإسعاده.....
كان يعشق الأطفال.. ويمضي أوقاتاً جميلة مع أطفال الأسرة.
ويعشق الإبل والبادية وسواليف الناس.....
لم يهجر الكتاب...
ولم يقاطع الجريدة......
يطلب ويوصي أصدقاءه بإحضار الإصدارات الجديدة المناسبة...
ولا يتردد في استعارة أي كتاب من صديق...
يروي ما قرأ بعذوبة وابتسامة وجمال....
ويروي ما سمع أو شاهد بأسلوب ممتع جذاب...
في رحمة الله من قد راح مبتعدا
إنا إلى الله قول أبرد الكبدا
في ذمة الله أخ مسرع ذهب
إلى الرحيم إلى جناته رغدا
عمل لسنوات طويلة بصمت، ودونما ضجيج إعلامي..
يؤدي عمله بحكمة واتزان....
تقاعد من عمله بهدوء شديد، بعدما أدى واجبه الوطني بكل محبة وصفاء وإيثار واندفاع...
لم ينتظر تكريماً.... إلا من رب العالمين... إيماناً بأن ما قام به هو واجب ديني وأخلاقي ووطني ومسؤولية أجيال...
لقد أبكرت يا رجل الرجال
وأسرجت المنون بلا سؤال
فأججت الأسى في كل قلب
وجارحة وما أبقيت سالي
عندما رأيت وفود المعزين من الأمراء والوزراء ورجال الدين والمسؤولين ورجال الأعمال وعامة الناس من كبار السن والشباب والذين ملأوا جوانب مسجد الملك خالد, أدركت مقدار وحجم المحبة والتقدير الذي يكنه كل هؤلاء المعزين لأبي خالد -رحمه الله- واستيقنت أن الله إذا أحب عبداً جعل محبته في قلوب الناس.
مشهد العزاء في المسجد والمقبرة والمنزل جعلني استحضر موقفاً عندما كنا نقف أنا وأخي أبو خالد -رحمه الله- في عزاء والدنا محمد الصالح العذل -رحمه الله- حيث توافد مئات المعزين من كل حدب وصوب فالتفت إلي أبو خالد وقتها وقال: لقد ترك لي والدي إرثاً كبيراً من محبة الناس له, وها أنت يا أبا خالد تترك إرثاً مماثلاً لأسرتنا وأبنائنا خالد وفيصل وسعود وفهد وأخواتهم ووالدتهم أعانهم الله وأعاننا على فراقك وأنزل علينا جميعاً السكينة والطمأنينة.
تؤم الناس بيتك كي تعزي
ولكن من يعزيني بحالي
أنا المجروح من موت تدلى
ليغدر في صديق كان غالي
نفقد الآباء ونفقد الأمهات...
ونذوب من الأحزان.....
يرحل الأحباب والأصدقاء.....
ويجري الدمع أنهاراً من الأجفان....
وينكسر الظهر من وجع الفراق......
ولكن....
يبقى المولى رحيماً بنا بأن يمن علينا بنعمة الإيمان وبالقدرة على مواصلة الطريق لنكمل ما بدأه الآباء, وما لم يكمله الأصدقاء والأحباب, ولتبق ألسنتنا تلهج لهم بصادق الدعاء.
في ذمة الله ما ألقى وما أجد
أهذه صخرة أم هذه كبد
قد يقتل الحزن من أحبابه بعدوا
عنه فكيف بمن أحبابه فقدوا
رحم الله فقيدنا رحمة واسعة..
سنفتقدك دائماً يا أبا خالد، سنفتقدك يا وجه الرجال.