فائز بن موسى الحربي
لا يستطيع أحد إنكار الحروب المدمرة التي شنَّها العثمانيون على البلاد السعودية بين عامي 1226 و1256هـ (1811 - 1840م) من خلال غزو قوات محمد علي باشا واليهم على مصر، والتي كان من مآسيها تدمير الدرعية في أواخر عام 1233هـ (1818م)، والقضاء على الدولة السعودية الأولى، وما أعقب ذلك من نشر الفوضى الأمنية، وبث الفتن والنزاعات الدامية في نجد. ومع أن قوات محمد علي باشا أجبرت على الانسحاب من الجزيرة عام 1256هـ (1840م)، وانحصر الوجود العثماني في منطقة الحجاز؛ إلاّ أن قوة عسكرية قادمة من البصرة دخلت الأحساء عام 1289هـ (1872م) واستقرت فيه.
وعندما نهض موحّد البلاد السعودية ساعياً إلى استعادة ملك آبائه وأجداده الذي استولى عليه ابن رشيد في ظروف معينة، لم يلتزم الأتراك الحياد؛ بل عادوا لعدائهم القديم، وناصروا ابن رشيد، وناوأوا صاحب الحق، فأمدوا الأخير بالأسلحة والذخائر، وأرسلوا الطوابير العسكرية من المدينة والبصرة، لدعمه في معركتي البكيرية والشنانة عام 1322هـ (1904م).
شاء الله أن ينتصر عبدالعزيز في المواجهتين المذكورتين انتصاراً كاسحاً رغم قلة إمكاناته العسكرية والمادية. انسحب ابن رشيد إلى ديرته، وترك العساكر الأتراك في القصيم يواجهون مصيرهم المجهول بلا مؤن ولا نصير!
كان بإمكان البطل عبدالعزيز أن ينقض على العساكر البائسين وأن يسحقهم ويستولي على ذخائرهم ومدخراتهم؛ لكنه عبدالعزيز صاحب الشيم العربية والأخلاق الكريمة. فلم يكتفِ بالعفو عن العساكر، بل أخبرهم إنهم في ذمته إلى أن يصلوا قواعدهم في المدينة والبصرة. فجهز لهم من يحملهم، وأرسل معهم من يرافقهم إلى أن يصلوا مأمنهم.
أما عساكر الأحساء فقد باغتهم عبدالعزيز، واقتحم حصنهم عام 1331هـ (1913م) بعملية عسكرية ناجحة، وتمكن من إحكام قبضته عليهم، وكان بإمكانه إبادتهم، لكن شيم عبدالعزيز تجلّت هنا مرة أخرى، فأمَّن العساكر، ورتب عودتهم إلى أقرب قاعدة تركية سالمين آمنين مع السماح لهم بأخذ أسلحتهم الشخصية.
وتجلَّت شيم الملك عبدالعزيز مرة ثالثة عام 1334هـ (1916م) عندما حوصرت قوات فخري باشا التركية بالمدينة المنورة من قبل قوات الشريف الحسين المدعومة بالبريطانيين والفرنسيين مع اشتعال الحرب العالمية الأولى. فلم ينتهز الفرصة للانتقام من العثمانيين، والانقضاض على مصالحهم، بل وقف موقفاً شهماً، فلم يكتف بالامتناع عن المشاركة العسكرية في الحرب على الأتراك؛ بل تغاضى عن تهريب المؤن لجنود فخري باشا المحاصرين في المدينة بشهادة أحد معاوني فخري باشا من الضباط الأتراك، وهو الضابط سعيد جودت، الذي بهرته أخلاق عبدالعزيز، فالتحق بالعمل معه، وتفانى في خدمته إلى أن وصل إلى رتبة فريق في المملكة العربية السعودية؛ إذ يقول: «إن الملك حسين بن علي عندما حاصر الحامية العثمانية في المدينة المنورة ... وكنت شخصياً من بين أفراد تلك الحامية، وكان يمكن أن نصمد أكثر لأن عبدالعزيز سلطان نجد آنذاك كان يغض الطرف عمَّا يصل إلينا عبر أراضيه من مؤن وعتاد وأغذية. فكنا مع قائدنا فخري باشا مدينين لشهامة ذلك الرجل العظيم، وظللنا نقاوم حتى صدرت الأوامر لنا بالاستسلام للملك حسين»(1).
هذه هي أخلاق ملوك هذه البلاد، التي يحاول تشويهها بعض الناعقين، مستغلين عبارة مجتزأة وردت في مداخلة لي قبل سنوات عديدة تخص حصار فخري باشا أثناء حصار المدينة، لا علاقة لها بالملك عبدالعزيز، ولا بغيره من قادة هذه البلاد، لكنه الجهل والتحامل، ومحاولة تعكير المياه للاصطياد فيها، ولكن هيهات لهم ذلك.
(1) جريدة الجزيرة، العدد (13760)، الثلاثاء 18 جمادى الآخرة 1431هـ (1-6-2010م).
** **
- د. فايز بن موسى البدراني الحربي