د.عبدالله بن موسى الطاير
منذ انتصار الحلفاء بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب العالمية الثانية، وأمريكا تهيمن على العالم ثقافياً واقتصادياً وسياسياً؛ هذه الهيمنة لم تكن طوعية وإنما فرضتها قوة أمريكا العسكرية. في كتابه السياسة الخارجية الأمريكية يقرر هنري كيسنجر أن أمريكا لا تملك سياسة خارجية وإنما تملك ثقافة يحتاجها العالم وقوة عسكرية كافية لفرضها. ترفيه هوليود، ومشروبات أمريكا الغازية: كوكاكولا، وبيبسي، ومطاعم وجباتها السريعة مثل ماكدونالدز وبيتزا هت، وخدماتها الرقمية مثل جوجل وتويتر وفيسبوك لم يكن لها أن تحقق هذا «التفشي» بدون قوة عسكرية تمهد لها الطرق وتحميها.
بانسحاب أمريكا الفوضوي من أفغانستان، تشاع الكثير من التكهنات عن انسحابات أخرى وشيكة. رافق هذه التوقعات بالانكفاء الأمريكي تبشير بهزيمة مشروعها الليبرو-ديمقراطي، خاصة وأن الرئيس بايدن أرسل أكثر من رسالة بأن بلاده لم تذهب إلى أفغانستان لبناء دولة وتخليف تجربة في الحكم، وإنما احتلت أفغانستان لدحر تنظيم القاعدة. ومع ذلك فإن التسرع بالاستنتاجات حيال أفول النجم الأمريكي إنما هو من ضروب الأمنيات، وليس مؤسساً على مؤشرات وشيكة لتراجع القوة الأمريكية لصالح الصين وروسيا والاتحاد الأوربي.
صحيح أن حلفاء أمريكا في الاتحاد الأوربي يتصرفون هذه الأيام تحت وطأة الصدمة من الخذلان الأمريكي لهم، ويعقدون الاجتماعات لتشكيل قوة تدخل عسكري أوروبية، ولديهم كامل التصور النظري والرغبة الأكيدة للانعتاق من الربقة الأمريكية، ولكنهم في واقع الأمر لا يملكون المعرفة الكافية ولا القدرة اللازمة لتفعيل تلك القوة؛ فأمريكا تمتلك قرار الأرض والسماء ولا تستطيع أوروبا التصرف بمفردها إلا كقوى معادية لأمريكا.
وحتى لا ننجرف أمام سيل الأمنيات، يجدر التذكير بأن أمريكا تمتلك مئات القواعد العسكرية في جميع قارات العالم بدءاً من أمريكا اللاتينية مروراً بأوروبا والشرق الأوسط، وكوريا الجنوبية واليابان، وصولاً إلى أستراليا. ووفقًا لديفيد فاين، الذي ألف كتابًا عن القواعد العسكرية الأمريكية حول العالم، فإن أمريكا تحتفظ بحوالي 800 قاعدة عسكرية في أكثر من 70 دولة. وعلى الرغم من التفاوت في أعداد الجنود الأمريكيين في تلك القواعد، فإن بعض المصادر تقدر عددهم ما بين 150 و 200 ألف في أكثر من 150 دولة. بل ذهب «مركز بيانات القوى العاملة الدفاعية» إلى أن الجيش الأمريكي لديه «ما لا يقل عن 200 ألف عنصر في الخدمة العسكرية في الخارج، منتشرين في 170 دولة حول العالم»، أي أنه يغطي أكثر من 70 % من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.
هذا النفوذ والانتشار العسكري الأمريكي لا مثيل له في تاريخ البشرية، ففي الوقت الذي تتحدث فيه المصادر عن 800 قاعدة عسكرية أمريكية حول العالم، تمتلك بريطانيا وفرنسا وروسيا مجتمعة حوالي 30 قاعدة خارج أراضيها. ووفقًا للمصادر الأمريكية المفتوحة فإن القيادة المركزية التابعة للبنتاغون تدير عدداً يتراوح بين 45 و65 ألف جندي في منطقة الخليج العربي فقط. ويتمركز أكبر عدد من القوات الأمريكية، والتي قُدرت بحوالي 50 إلى 55 ألفاً في اليابان، ونحو 33 ألفاً في ألمانيا، وفي كوريا الجنوبية نحو 26 ألف جندي.
خروج 2500 جندي أمريكي من أفغانستان ليس مؤثراً في ميزان القوة الأمريكية، ولكنه بعث برسائل تفيد بمراجعات عميقة تجريها الولايات المتحدة الأمريكية قد تغير من نظرتها للعالم، وتحد من شهيتها المفتوحة للهيمنة، وترغمها على التركيز بدلا من ذلك على قضاياها المحلية.
التحديات التي تواجه أمريكا في الداخل ليست كما هي قبل عشرين عاماً، فشبكات التواصل الاجتماعي مكّنت عامة الناس ونخبهم من التعبير بشفافية عما يعتقدونه، وبذلك خرجت إلى العلن مشاكل متراكمة كان حراس البوابة الإعلامية التقليدية يخفونها، أو ويجمّلونها. ولقد صرح الرئيس بايدن بوضوح بأن التهديد الذي يمثله استعلاء العرق الأبيض في أمريكا يفوق بكثير تهديد الإرهاب المتمثل في القاعدة وداعش.
لقد قسم الرئيس السابق دونالد ترامب المجتمع الأمريكي بخروجه عن المتعارف عليه، وحديثه عن المسكوت عنه، والتعبير عن المكنون في الصدور تجاه المهاجرين والأعراق الأخرى غير البيضاء، وبذلك شحن المجتمع ضد بعضه في بلد انشغل بالهيمنة، ونسي بناء قوة تحميه من بعضه البعض في الداخل، وهو فشل تنبه إليه الأمريكيون صبيحة غزوة الكونجرس في 6 يناير 2021م.
وقصارى القول هو أن أمريكا لا تزال قوية، ومخطئ من يتجرأ عليها في هذه المرحلة. أمريكا في واقع الأمر تمر بإعادة تعريف المخاطر، والتخطيط لمواجهة مهددات مستجدة تعرّض أمنها الوطني للخطر، وهي تتصرف كدولة عظمى تملي ما تريده على الجميع دون استشارة أحد في قراراتها.