د.مصطفى يوسف اللداوي
حلم رئيس الحكومة الإسرائيلية الجديد «نفتالي بينت» كثيراً، بزيارته العتيدة الأولى بصفته إلى واشنطن، وبنى آمالاً كبيرة على لقائه بالرئيس الأمريكي جو بايدن، ووضع أفكاراً وتصوراتٍ كثيرة على أمل أن تساعده في تثبيت حكومته، وتحصينها من السقوط، وتعزيز مواقفه في مواجهة خصمه اللدود وحليفه السابق بنيامين نتنياهو، واستعد للزيارة بملفاته وأوراقه، ومشاريعه ومخططاته، وأحلامه وآماله، واصطحب معه مستشاريه ومعاونيه، وكان قد أرجأ العديد من قراراته، واستمهل وزراءه، ومَنَّى مستوطنيه، ووعد مؤيديه، ولم يقطع مع أحدٍ رفضاً حتى يعرف اتجاه الرياح، فيعدل على أساسها أشرعة حكومته، التي قد تسقط بغير المساعدة الأمريكية، وقد ينهار ائتلافها إذا لم يضمن الدعم والتأييد الأمريكي بما يعوض ضعف التمثيل الداخلي.
لكن ظن «بينت» قد خاب، وتبددت أحلامه، وانهارت مشاريعه، وفشلت خططه، وجلس في واشنطن كاليتيم في الزاوية، يقضم أظافره، ويعض أصابعه، ويحك رأسه قلقاً وهماً، وينتقل من المطبخ إلى المكتب، ذهاباً وإياباً يجري وراء سيد البيت الأبيض، محاولاً اللقاء به والحديث معه، لكنه رأى مضيفه صامتاً ساكتاً، مهموماً محتاراً، حزيناً حسيراً، لا يلتفت إليه ولا يهتم به، ولا ينظر إليه ولا يحدثه، ولا يجيبه ولا يرد عليه، وتغفو عيونه وهو يصغي إليه، ويسرح بأفكاره بعيداً عنه، وقد بدا عليه الشرود والوجوم، والحزن والألم، إذ كان يشغله ما هو أهم وأخطر، وكانت الرسائل التي ترده تباعاً تنعكس على وجهه هماً وقلقاً، وتؤثر على حديثه وصلاً وربطاً.
قد كان حرياً بنفتالي بينت لو كان يعي ويعقل، وعنده بعض الشرف والكرامة، ويثق بمحبيه ويسمع للمخلصين من مؤيديه، أن ينهي اللقاء وينسحب من الاجتماع، ويعذر مضيفه ويغفر له انشغاله عنه، وإعراضه عن الحديث معه، فالوقت ليس وقته، والأولوية ليست له ولا لكيانه، وعند الرجل من الهموم والتحديات، بل والكوارث والمصائب، ما يغنيه ويشغله عنه.
لكنه أصر بصفاقةٍ وغباءٍ على ملاحقة مضيفه والضغط عليه، وعرض عليه ما حمله من أفكار ومشاريع، ومقترحاتٍ وآراء، وانتظر منه الموافقة وتوقع منه القبول، لكن الصور الواردة من كابل، والأخبار المتواصلة من أفغانستان، وغيرها التي تحمل أخبار الأنواء والأعاصير، أصمت أذني بايدن عن أي موضوعٍ آخر، وشغلته عن أي ملفٍ مهما كانت أهميته وخطورته، بما في ذلك «إسرائيل» التي تتميز لدى الإدارات الأمريكية وتتدلل، فأعرض عنه ونأى بجانبه، ولسان حاله يقول له، ما الذي أتى بك الآن، ولماذا لا تذهب وتتركنا وشأننا.
وصفه المتابعون والمراقبون بالضيف الثقيل ولم يسمع، وقالوا عن زيارته إنها غير مناسبةٍ ولم يتراجع، وتعمدوا إبعاده عن رئيسهم فكابد وعاند، ولازمه ولاحقه، وتصور معه وأصر على مصافحته، واعتبروا أن اقتراحاته غير لائقة فتمسك بها وحرض عليها، ورأوه فاقداً للذوق وخالياً من اللباقة واللياقة، عندما شاهد توابيت الجنود الأمريكيين تصل إلى واشنطن، وقال إن خروجهم من أفغانستان كان خطأ، وإن انسحابهم من العراق وسوريا سيكون جريمة، وحذر مضيفه، وهو خائفٌ وجلٌ يترقبُ، من مغبة المغامرة وخطورة المبادرة، وكأنه أستاذٌ ينصحهم، أو سيدٌ يأمرهم ويوبخهم.
يعلم بايدن وإدارته، أن بينت وكيانه قد فشل على جبهاته، وجاء يتوسل القوة، وخسر في قتاله ذخيرته وصواريخه، وتضررت منصاته ومضاداته، وجاء يبحث عن التعويض والبديل، ويدرك أنه يعتدي ويظلم، ويحاصر ويحرم، ويقتل ويعتقل، ويريد منهم النصرة والتأييد، والمساعدة والدعم، إلا أن الإدارة الأمريكية باتت تتذمر من شكواهم، وتتبرم من دعواهم، ولا تصدق صراخهم، ولا تؤمن بروايتهم، وهو ومن معه في حكومته، لا يستجيبون لأي نصحٍ، ولا يصغون إلى أي توجيه، ولا يقبلون بأي مشورةٍ، ويصرون على مواصلة سياستهم ضد الفلسطينيين، حصاراً وإهانةً لسلطتهم، وحصاراً وتجويعاً لشعبهم، وشجباً وإدانةً لمقاومتهم.
خاوي اليدين وخالي الوفاض عاد نفتالي بينت إلى تل أبيب، وقد علم أن قراراتٍ مؤلمةٍ تنتظره، وتغييراتٍ في السياسة والأمن تترصده، فما وجد من ينتظره فرحاً، أو يستقبله ارتياحاً، أو يرحب به عائداً، فتسلل إلى مكتبه مكتئباً، واجتمع بمساعديه مغتماً، وأدرك أنه فشل وخسر، وقد كان يظن أنه سيعود بسلةٍ ملأى وجيوبٍ مثقلةٍ ووعودٍ مؤكدةٍ، ولعل ما ينتظره بعد أيامٍ سيكون أسوأ وأنكى، فخصومه يتربصون به، وأنصاره سيعتبون عليه، وحلفاؤه سيتأكدون أكثر فأكثر أنه ليس أهلاً للمسؤولية، وليس أقدر على القيام بالأعباء، وهو يعلم أن إعادة الزيارة صعبٌ، وأن تعويضها مستحيلٌ، وأن تغيير وجهة النظر الأمريكية الجديدة غير ممكنٍ.
إنها أفغانستان وما استجد على أرضها، وإنها طالبان وما أنجزت وحققت فيها، فهذه متغيراتٌ كبيرةٌ، وأحداثٌ خطيرة، ستقف أمامها الولايات المتحدة الأمريكية طويلاً، وستتعلم منها الكثير ولن تنساها أبداً، فقد هزمت بحقٍ، وانسحبت بذلٍ، وضربت على رأسها بمعاول وفؤوسٍ وشجت، وتشوهت صورتها وضعفت هيبتها، وباتت الثقة فيها محدودة، والاعتماد عليها صعبٌ، والثقة فيها مخاطرة.
بات نفتالي بينت يدرك وكل القيادة الإسرائيلية، أن ما بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان ليس كما قبله، وأن الفشل الذريع الذي لحق به في واشنطن، إنما كان واحدة من اللعنات الكثيرة التي ستطاله وكيانه، وستحل عليه وعلى شعبه، ولن تتوقف خسائره وكيانه على برودة الاستقبال، وقلة الحفاوة والترحاب، أو تراجع الاهتمام وانقلاب الأحوال، بل سيجد الكيان وحكومته بعد الانتصار الأفغاني والاندحار الأمريكي، نفسه وحيداً إلا من بعض الأنصار الضعفاء والمراهنين البلهاء، الذين لن ينفعوه إذا ضعف، ولن يقفوا معه إذا سقط، ولن ينصروه إذا طلب، وهذا لعمري بات قريباً وممكناً، ولم يعد بعيداً أو مستحيلاً.