قواعد المنهج الاجتماعي ليست آلِيَّاتٍ ميكانيكية محصورة في الأُطُر النظرية، وبعيدة عن الواقع المُعيش، وإنَّما هي تيارات معرفية واعية، تشتمل على منطق التاريخ، وفلسفة التغيير، وضرورة التطبيق. وهذا يَدفع باتجاه تحقيق التوازن الداخلي في العلاقات الاجتماعية، وتحقيق الاتِّزان بين الأفكار الذهنية وعناصر البيئة، وُصولًا إلى حالة الثبات في جسد المجتمع. والثباتُ لا يعني جُمود الأفكار، وتَحَجُّر المنظومة العقلية، بَل يَعني الوقوف على أرض صُلبة من أجل الانطلاق إلى الأمام.
وإذا كان المجتمع هو الكِيان الحاضن لأحلام الإنسان العابرة للزمان والمكان، فإنَّ الثَّبات هو كَينونة التَّحَوُّل الدائم، وصَيرورة التغيير الاجتماعي، حيث يتمُّ الانتقال مِن الوَعْي المُجرَّد إلى الوَعْي بالتَّغيير، الذي يَقُوم -بالأساس- على الوَعْي بالتاريخ، لأنَّ التاريخ شَرْط المعرفة، ولا يُمكن تغيير عناصر المكان إلا بمعرفة عناصر الزمان.
عمليةُ توليد المعرفة في العلاقات الاجتماعية لا تنفصل عن التجارب الروحية للأفراد، وخِبراتهم المادية. واستحالةُ الفصل بين التجربة والخِبرة تُؤَدِّي إلى تحريرِ الوَعْي الإنساني من سُلطة التفاعلات الرمزية في المجتمع واللغة، وتكوينِ نظام ثقافي إبداعي لا يُمكن حصرُه في القوالب الجاهزة والأنماط المُعَدَّة سَلَفًا، لأن القَولبة والتَّنميط مِن أشكالِ الهَيمنة الاجتماعية، وإفرازاتِ السُّلطة الثقافية. ومِن أجل إيجاد نسق مركزي في تحوُّلات الحياة الإنسانية اجتماعيًّا وثقافيًّا، ينبغي التَّحَرُّر من العناصر الضاغطة على قيم الإبداع، والانعتاق من المُكوِّنات التي تُحَاصِر الإنسانَ شُعوريًّا ولُغويًّا وبيئيًّا. وهذا الأمر من شأنه إعادة تعريف الأفكار ضِمن سياق الحقائق المعرفية والحالات الشعورية، وإعادة تَكوين البُنية الوظيفية للإنسان، باعتباره العُنصر الأساسي في الطبيعة، الذي يمتلك سيادةً على عناصرها. والهدفُ من امتلاك الإنسان للسِّيادة على العناصر هو تفسير الظواهر الفكرية، وتحليل البُنى الاجتماعية، وتحديد الاتجاهات المستقبلية. وبذلك تتكوَّن حَلْقة الوَصْل بين المعنى الوجودي والرمز اللغوي، وتتَّضح العلاقة المصيرية بين الدال (جسد المجتمع) والمدلول (رُوح الإنسان)، واللغةُ هي المنظومةُ المُسيطرة على الدال والمدلول، والجهةُ التي تَمنح الجسدَ كِيانَه وكَينونته، وتُعْطي الرُّوحَ شرعيتها وامتدادها. وجسد المجتمع هو الشكل العام، والمظهر الخارجي. والشكلُ يدلُّ على المعنى، والمظهر يدلُّ على الجَوهر. والإنسان هو مَعنى الحياة، ورُوح الإنسان هي جَوهر الوجود. وهذا يُثبِت أن فلسفة المنهج الاجتماعي تُمثِّل رِحلةَ اللغة من جسد المجتمع إلى رُوح الإنسان.
لا يُمكن تفسير العَالَم خارج إطار الأفكار، والإنسانُ لا يَملِك وُجودًا حقيقيًّا خارج اللغة.
وفي ضَوء هاتَيْن القاعدتَيْن، ينبغي تفسير مصادر السلوك الإنساني، والتمييز بين الفِعل ورَد الفِعل، مِن أجل صناعة تيارات فكرية مُتكاملة وقادرة على التَّكَيُّف معَ التحديات المفروضة على هُوِيَّة المجتمع، وتستطيع الحفاظَ على تماسك هذه الهُوِيَّة، في ظِل الصِّراعِ بين الإنسان وذاته بسبب ضَغط الأنظمة الاستهلاكية، والصِّدامِ بين اللفظ والمعنى بسبب ضغط الرموز المُستترة في اللغة. والهُوِيَّة المُتماسكة في عَالَم مُمَزَّق تُصبح عَالَمًا جديدًا ومُجتمعًا كاملًا.