د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
«خلاصة الأيام» كتاب إعلان وتوثيق يفيض عن ملامح أوقات اكتنزت بضروب مختلفة من الحياة؛ عاش فيها منذ الميلاد وعايشها عقل عربي سعودي مكتنز هو معالي الدكتور فهاد بن معتاد الحمد وزير الاتصالات وتقنية المعلومات سابقًا، وفي الكتاب أيضًا قسمات أمكنة اهتزت وربتْ وأنبتتْ فكراً جديراً بالاطلاع والمكاشفة، وفي الكتاب تصوير دقيق لحياة الطفولة والشظف والمعاناة الوالدية من أجل الأبناء آنذاك التي من أبرز مستخلصاتها تكوين الأجيال القادرة على استيعاب ما يجري؛ ومن ثم توظيف ذلك للتجاوز إلى ما هو أفضل. وتوشَّح الكتاب بوقفات الأصدقاء مع الحال والأحوال التي مرت بالكاتب، فكان لهم وفير من بوحه المتوشح بالإيجابية المحفزة. والكتاب صدر عن العملاق الثقافي الوطني «مركز الأمير عبدالرحمن بن أحمد السديري الثقافي» بالجوف، كما حظي الكتاب بقراءات عدة نشرت في مجلة الجوبة وبعض الصحف الوطنية ومنها هذه القراءة. وتشي لغة الكتاب في بعض مفاصلها ببساط قد انطوى نسيجه بفعل الترقي الحضاري، وما لبث المؤلف أن بسطه وثيراً قشيباً ممتزجاً بقوة مواكباً عهودنا الحاضرة. ولم يكن مصدر المؤلف مذكرات تم إعدادها مسبقًا أو مستندات ممهورة بالرسمية الموثوقة، إنما استقطب الكاتب شخصيته بكل طاقاتها للاندماج في صفات الأمكنة وبيئات الناس. ونصَّب الدكتور فهاد نفسه شاهدًا ومستشهدًا يقوده إحساس يتجلَّى أن أزمنته كلها كانت حافلة رغم متناقضاتها وتراجع بعض إمكاناتها المساندة؛ واستطاع معالي الدكتور فهاد باقتدار استنطاق الماضي القريب والبعيد بأسلوب وخصيصة «فهادية» لم يسبقه إليها أحد -في اعتقادي- وهي التوجه للكتابة عن الامتلاءات لتحمل معه الحديث زهواً وافتخاراً، وتكاد فترة وجود الدكتور فهاد في معهد الإدارة ومجلس الشورى تحظى بحيازة طرح فياض غزير حملته مع الكاتب الأحداث والمواقف لأنه يتحاشى الافتخار بمنجزه الذاتي! وإن لزمه الحديث عن مواقف الآخرين فإنه يمهد لها بامتلاءات من عقله لتصبح متاحة «قابلة للتداول».
ويبرز ذلك في كثير من محطات التعليم دارسًا ومعلمًا! وحتمًا فكل الانتقاءات والانتقالات تحتمل زخمًا لا منتهيًا من القراءات؛ فالتلقي في مؤلفات السيرة الذاتية تحكمه معطيات كثيرة تتصدرها ثقافة المتلقي وعينه؛ فمعظم وثائق الكتاب اعتمدت على السماع والاطلاع والنقل والممارسة الحقيقية؛ واستطالت المسيرة لمعالي الدكتور فهاد من معلم تربية فنية يمزج الألوان لتكون ظلالاً للمعاني الفاخرة إلى وزير يصنع القرارات المؤثرة. أما الأسلوب فلغة الكتاب وظيفية مقرؤة جلية ويتوشح العبارات فرض الرأي كمفتتح للطرح دائمًا؛ فالمواقف محترمة والمسيرة ملأى بالغوادي؛ والرأي القويم سابق للتغيير وسمة عليا فيمن يعلو مكانًا ومكانة. ويأبى الدكتور فهاد إلا أن يعيد كل شيء إلى مكانه في الذاكرة الوطنية، ولم يسترخِ عن القوة التي اتسم بها فيما أوكل إليه من مواقع رسمية لاستكمال مشروع توثيق ذاتي ومجتمعي وطني. وأستطيع أن أدوِّن حقيقة تجلّتْ؛ وهي أن في الكتاب إشارات وافرة لجسور اتصال بين الباحثين والمثقفين وأقطاب السلطة التنفيذية، بسطها المؤلف واعتلى مراكبها وأسهب فيما يراه واجبًا وطنيًا يحتاج إلى أصوات المخلصين..
وفي الكتاب قدرة لافتة على الاستدلال بشكل منطقي مقنع جداً، وحضر ذلك جلياً فيما رصده عن زمنه في الشورى ومعهد الإدارة؛ كما أن في الكتاب محطات تحمل حكايات المشهد الواحد ولكنها تفضي إلى مشاهد لا حصر لها استمعنا لها في الجذور وزمن الصبا ومكانه وشذرات من فصول أخرى، وتتجلّى لنا صورة الكاتب حيث نقرأها في روزنامة الزمن الذي كان مقداره 45 عاماً؛ أشرفنا خلالها على رواق البيت وفصول المدرسة وأفياء المزرعة، وفي المدرسة الإدارية الوطنية المتميزة «معهد الإدارة»، وتحت قبة الشورى، وفي صدارة وزارة الاتصالات. وحتما يحاول معالي الدكتور فهاد ببراعة لافتة أن ينقل إلى علمنا ما لا نعلم ليجدد فينا الحلم والنجوى في كل مستراد طافه واعتلاه؛ أو يبعث فينا التفكير الأعمق أو يحرضنا على مزيد من التساؤل «وفي كل خير»؛ ولم تكن تجربة المؤلف في اتجاه واحد إنما يستدير ببراعة حول النهوض! ويتبرعم عندنا يقين أكيد بأن مفهوم النجاح مسألة نسبية، وتجربة المؤلف في كتاب خلاصة الأيام لم تكن بعيدة عن العين المجتمعية الراصدة، ففيها روائع من المواقف الملهمة، ولم تكن بعيدة عن حركة الانتقال في النظام المحلي الذي عاصره المؤلف.
ويظهر السرد في الكتاب وهو يقوم على الانتقائية، فما له علاقة بالذات الفردية بدا أكثر محدودية وما له علاقة بمحطات الوطن ودروبه نراه يثير النقع، واستطاع المؤلف في خلاصة الأيام أن يتبنى فكرة الواقعية في مسرده اليومي! وفي العموم فإن رئة التنفس في الكتاب تنفث صدقًا في سبيل الطرح الإنساني الكبير الذي أبدع الكاتب في التقاط صوره، وما أجمل سطوة الوضوح التي سيطرت على مضامين الكتاب وهي غنية بالتنوع الثقافي والوعي النوعي الذي يشع في ثنايا الكتاب. وفي الكتاب يؤمن المؤلف أن التعميم لا يعبِّر عن الحقيقة فالمعيار نسبي، والإنسان في كل زمن ومكان يتبدل ويتحول. وفي الكتاب خلاصة سيرة استجابت بطموح وتطلع كبير للتحولات! وتلك الاستجابة قابلتنا في الكتاب عندما جلبتها الأزمنة، وفي كل مفاصل الكتاب يؤكد لنا الكاتب أن للوقت قيمة إنسانية حيث إن تحميل الفضائل لماضٍ دون فعل وفكر ووعي بالمستقبل نكوص متعمَّد، ولقد حضر التميز في الكتاب بتجربة طويلة ومعرفة كاملة بالمكان وأهله! وانثالت في ثنايا الكتاب عبارات شموخ طيبة النسائم تهب من ذات متواضعة جدًا، وقدم الكاتب خلاصة أيامه بأسلوب يستثير العقل؛ بيد أن الواقع الذي تحدث عنه الكاتب في صفحات الكتاب منذ البداية لم يتفشَ فيه اليأس ولم تضمحل أدواته حتى نهاية السيرة وإن كانت الذاكرة لا تسعف أحدًا.
ويُحمدُ للكاتب حين وقف واستوقفنا معه في ثنيات المكان وعلائق الزمان ومحطات العمل الوطني الممنهج والأمل المجتمعي المثمر حتى أتانا اليقين بأن للجوف أدوارًا عليا في ولادة عقول وطنية ملأى،،،