وفاء العمير
فكَّرَ في المغادرة، كان ذلك وهو يقرأ في كتاب، ثم وهو يُعِدُّ القهوة لنفسه في مطبخ بيتهم الواسع. وكانت أمه تعطيه ظهرها، مشغولة بتقطيع البطاطس لإعداد صينية بطاطس باللحم المفروم. كان وزن أمه قد زاد مؤخراً عدداً من الكيلوات لأنها كانت منغمسة في الأسابيع الأخيرة، بعد وفاة زوجها، كانت منغمسة بالأكل. أعرف أنها جميلة طويلة، أعتذر من القارئ. كانت منغمسة في تناول المعجنات بشكل كبير لا يمكن المسامحة فيه، أو التهاون بشأنه، لكن ابنها كان صامتاً إزاء ذلك، مرتبكاً بمعنى أدق، فقد كانت الوحدة مفاجئة لكليهما، وثقيلة عليهما بصورة لا يمكن تصورها.
كان ذلك الصوت النابض بالحياة قد اختفى فجأة وأصبح تحت التراب وهو في سن الخمسين، ذبحة صدرية بسبب السجائر التي يدخنها منذ أن كان في الخامسة عشرة من عمره، لأن والديه تركاه يفعل ذلك، في الحقيقة فقد تركاه يفعل كل ما يحلو له، وكانت حياته عبارة عن نكتة طريفة لا يتوقف عن ترديدها بحس الفكاهة الذي يتمتع به، هذا الرجل الوسيم، بتجاعيد خفيفة حول العينين والشفتين.
فكَّرَ في مغادرة المنزل وهو يضع فنجان قهوته على الطاولة المستديرة حيث كان يقرأ الكتاب، كانت الفكرة تلحُّ عليه مثل طفل صغير في متجر الألعاب، يستمر في البكاء ليشتري له والده لعبة. كانت الفكرة تلح عليه وهو لم يكن يعارض، كان مستسلماً لها ببطولة صاعقة، بأوهامه الكثيرة التي عُرِف بها، من غير صدمة، من غير تعليق متطفل من عقله على هذه الفكرة التي بدت قوية جداً، وعلى استعداد لأن تبقى مدّة طويلة في رأسه. كانت أوراق الكتاب تنعكس على عينيه، على الدائرتين السوداويتين. كان يقرأ بنهم، ويردد بضع جمل مما يقرأ، بضع جملاً لا غير، وعيناه على الكلمات مثل سمكتين منطلقتين في النهر بسرعة قصوى. وكان الفنجان يرتفع إلى شفتيه، ثم يعيده ثانية إلى مكانه على الطاولة الصغيرة.
كان البيت صامتاً ومُضاءً بأنوار ساطعة. كانت أمه تخاف من الظلام، كان هذا دأبها منذ أن كان والده على قيد الحياة، كان يجب أن يكون البيت دائماً مضاء في النهار وفي الليل. الغرفة التي تنام فيها يجب أن تكون مضاءة أيضاً، لا تنام في الظلام، وكانت لها غرفة منفصلة عن غرفة أبيه، فأبوه كان ينام في ظلام دامس، كان يحب الظلام بعكسها، لهذا فجانب من البيت الذي يرتاده والده مظلم، والجانب الآخر الذي ترتاده أمه مضاء. وهكذا كانت حياته معهمًا بين نقيضين، وحين افتقد الظلام، لم يعد سوى النور المبهر، الذي لا تستطيع عيناه أن تتحملاه.
فكَّرَ في الخروج من حياة أمه عندما نهض على قدميه، ومشى إلى النافذة، وقد ترك كتابه مفتوحاً، لقد كان الكتاب الوحيد لديه، الكتاب الوحيد الذي يظل يقرأ منه القليل ثم يتوقف. النافذة موصدة ولا شيء خلفها. الصمت يرزح في المكان، لقد أصبح من العائلة، الأشياء غير المفهومة تتكاثر، التحليلات العقلية تنمو، المائدة مُعدة للعشاء، وأمه تنادي، يأكل مع والدته، متقابلين، كرسي أمام كرسي، الكرسي الثالث أزيح بصورة سريعة، بخوف شديد، إنه الخوف من الموت، الفقد المفاجئ. يتناولان عشاءهما ببطء، صينية البطاطس بالفرن مع اللحم المفروم وشرائح الطماطم الطازج، اشترته الوالدة من السوبر ماركت، ليس غريباً أن تتبضع، أن تنهمك في ذلك، أن تنسى العالم كله هناك، أن لا تستيقظ من إغفاءتها اللذيذة بين صناديق الكوسة والبصل إلا بعد مضي ساعة أو أكثر. التبضع مهمّة بائسة بالنسبة للوالد، لا تأخذ معه سوى دقائق معدودة، وهو بالسيارة، أمام محال الخضرة المقامة في الشوارع، وهو مار، وفي سبيله إلى مكان آخر، مهمة مستعجلة، لا مساومة في الأسعار، بسرعة، الحياة السريعة هذا ما أحتاجه، الحياة السريعة مثل تدخين سيجارة في مقهى على الطريق، والحب يكاد يكون كذلك أيضاً، أحبك يا حبيبتي لكن لا تبقيني عندك وقتاً طويلاً فأنا في شغل شاغل عنك، لدي اهتماماتي التي لا تعنيك، أنت لديك مطبخك وطعامك والمتجر الذي تتبضعين منه، بل المتاجر، فأنت تذهبين إلى متجر يبعد عن بيتنا ساعة لأنه جديد، قالت لك عنه صديقاتك التافهات، وذهبتِ إليه، وزرتيه، وبقيتِ فيه الوقت الذي تشائين، ثم عدتِ لتطبخي لنا مما اشتريتيه، طبخاً رديئاً يا زوجتي العزيزة، لكن هل أتذمر؟ انظري إليّ كيف أحبك؟ كيف أتعامل مع طبائعك الغريبة؟ وابنك الذي يبلغ من العمر عشرين سنة، انظري إليه يكاد يصبح الأول بين المكتئبين، ورأسه ينحني أكثر فأكثر يوماً بعد يوم، لم أعد أرى وجهه، ولا أتعرف عليه لو التقيت به في صالة منزلنا، ولديه تلك الغرفة الصغيرة الخالية من الأثاث، ما عدا طاولة دائرية يضع عليها كل ما يحمله بيده، زوجتي لم أعد أعرف كيف أنام في بيتنا الجميل؟ ولا كيف أستيقظ؟ ولا كيف أتحدث معك؟ ولا كيف أخرج إلى السيارة؟ وكأن الجنون يسابقنا إلى كل شيء نفعله.
فكَّرَ في العيش في مكان آخر حين قالوا له إن أباه مات بالذبحة الصدرية في سيارته التي اشتراها منذ شهر، ولم تزل رائحتها فيها. كانت أمه وقتها تقشر البصل بسكين حاد، وكانت أناملها البيضاء ممتلئة، وتجاعيد راحة يدها بين السبابة والإبهام واضحة، حينها توقفتْ للحظات، ربما لكي تستوعب الخبر. هو لم يفهم، كانت عيناها منخفضتين على البصل، ولهذا لم ير عينيها، ولم يعرف بماذا تفكر؟ لكن كانت غالباً هكذا. وارتاح عندما رفعت رأسها ونظرت إليه. هل كانت صماء؟ هل أصابها الصمم فجأة؟ وعيناها اختلط دمعهما فلا يعرف هل كانت تلك دموع الحزن أم دموع البصل؟! لكنها تركت كل شيء، وحضنته بقوة، وأجهشت في البكاء على كتفه الأيمن، كأنما لم تبكِ منذ سنة أو أكثر. حاول أن يخفف عنها لكنه لم يستطع، انبهر لقدرتها الخارقة على البكاء، لقد بكت عن خمس نساء.
فكرتَ بالرحيل لأنك لا تعرف ماذا تفعل؟ ولا ماذا تقول؟ كانت تلك من الأمور الشاقة التي تقف أمامها عاجزاً. لا بأس بالصمت، الصمت الثقيل كدببة متجمعين. بعد العشاء نهضت، ووقفت قليلاً أمام صينية البطاطس باللحم المفروم. كان قد تبقي نصفها. أمك ما زالت جالسة في مقعدها، لم تنه عشاءها، تعرف أنها لن تنتهي قبل أن تأكل كل ما في الصينية. كانت الأنوار كلها مضاءة بشكل ساطع جداً، وإضاءة زائدة قوية من الثريا فوق الطاولة. قلت لها: عشاء لذيذ يا أمي، تسلم يداك. قالت لك: بالهناء والعافية. كان أبوك ليحبه. ثم خفضت رأسها، وأكملت عشاءها. مشيت بضع خطوات وأنت ترتدي البيجامة المنزلية، ورأسك عليه قبعة زرقاء داكنة، لم تضع الساعة هذه المرة في معصمك، وشربت ماء. كانت صورة أبيك لم تزل معلقة على الحائط وهو يضحك، ويدخن سيجارة، ويقول لك أنت تافه لأنك لا تفعل شيئاً مما يفعله الشباب الذين في سنك، وغرفتك مزرية، ويمكن بكل سهولة أن تأخذ غرفة الملحق بدل أن يبنوا لك غرفة خاصة بك. وفكرت في المغادرة، وقلت بعد أن أشاهد فيلم جيم كاري Mr. Popper›s Penguins