غزال بنت محمد الحربي
لكل منّا قصة لم ينسجها وحده ولم يعش أحداثها منعزلاً عن محيطه. وإنما تمّ تحديد المعالم الكبيرة لهذه القصة والتشكيل النفسي والسلوكي لها في نطاق ثقافي خاص، حيث تلعب الثقافة دوراً محورياً في توجيه أحداث الحكايات التي نقرأها, والمواقف التي نمرّ بها, والسلوكيات التي نتعامل بها مع الآخرين, والمعتقدات التي نؤمن بها. ولهذا تعدّ الثقافة أكبر قوة مؤثرة في تشكيل الفكر والعواطف والسلوكيات الإنسانية, وهي العدسة الأكثر وضوحاً لرؤية العالم بشكل عام ورؤيتنا لأنفسنا بشكل خاص.
تؤثر الثقافة بمفهومها الواسع في قراراتنا, وطريقة معيشتنا, وأسلوب حياتنا وتفكيرنا ورسمنا لأهدافنا الشخصية والمجتمعية, بل إن بعضاً من أوجاعنا وعُقدنا وصراعاتنا في هذه الحياة تحدث بسبب موقف ثقافي محدد.
غير أن هذه الهوية الثقافية في بُعديها «الظاهر والخفي» لا يتم إدراك مدى خصوصيتها وطبيعتها إلا حين نختلط بالآخرين ممن يتمتعون بهوية ثقافية أخرى مغايرة، وهنا تبدأ حكاية أخرى.
هذه الحكاية يمكن أن نعنون لأحد فصولها «بالعنصرية» وللآخر «بالتواضع». كيف تشعر مثلاً وأنت ترى شخصاً يتناول طعامه بيده اليسرى؟ أو حين يتحدث معك أحد بلغة لا تفهمها أو بلهجة مختلفة عن لهجتك؟ وكيف تنظر لمن يمارس طقوساً دينية وعادات مختلفة عن تلك التي تمارسها؟ وهل لديك رغبة في ممارسة رياضة غير مألوفة لك في محيطك مع أبناء جالية مقيمة في بلدك؟ هل ستقبل أن تلبس لباساً مختلفاً لتثبت مدى تقديرك لثقافة مختلفة كلياً عن ثقافتك في طريقة اللباس؟ كيف ستتعامل مع مثل هذه الحالات؟ وما هي الأفكار والانطباعات التي سيستحضرها المرء وهو يرى مثل هذه الاختلافات والسلوكيات المغايرة؟ وما مدى استعداده للتعايش الحقيقي معها؟
إن الإجابة على هذه التساؤلات وغيرها هي ما يحدد فيما إذا كان الشخص متواضعاً ثقافياً أم لا. بل إنها تحدد فيما إذا كان هو في الأساس شخصاً متواضعاً ويقدر الاختلاف ويحترم الجميع بلا استثناء أو اعتبار لانتماء محدد.
يُعرف التواضع بشكل عام على أنه عدم التعامل بفوقيّة مع الآخر وإظهار الاحترام للآخرين, ومهما علت مكانة الإنسان عليه أن ينحني ويقترب من الآخرين ولا يبتعد عن أصل خِلقته, وكما يقول المثل الصيني: «كن كنبات البامبو؛ كلما ارتفعْت انحنيْت». أما التواضع الثقافي فهو القدرة على الاحتفاظ بموقف شخصي موجّه وواعي فيما يتعلق بسمات الهوية الثقافية المهمة للآخرين. وهو تجاوز تقدير ثقافة الآخرين إلى الرغبة في تفهّم طبيعة اختلافهم, وتعلّم ثقافتهم بشكل يسمح لنا التعامل معهم بشكل صحيح, وعدم التسليم المطلق للانطباعات السابقة عن ثقافة الشعوب والمجتمعات التي تميل في الغالب إلى إبراز أفضلية ثقافة على أخرى أكثر من انتهاجها منهجاً يمدّ جسور الاتصال والتفهم والتعايش.
ولأن الثقافة موروث خاص يتمّ تشكيله والتوافق عليه اجتماعياً عبر الزمن بفعل الظروف الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والفكرية لكل شعب, فإنه من الصعب الإلمام بمدى وعي الفرد نفسه بكل المزايا الثقافية التي تحدد هويته بدقّة وعمق. لذا نجد أن بعض الأفراد يحددون هويتهم الثقافية عبر الملامح الكبرى البارزة التي تميزهم مثل اللغة والدين والجنسية, وهذه هي الهوية الثقافية الواضحة التي تظهر بوعي أو بدون وعي. توجد في المقابل هوية ثقافية خفيّة, تتمثّل في إخفاء الانتماء القبلي أو الولاء أو المذهب. بعض الأشخاص ممن ينتقلون للعيش في مجتمعات غير مجتمعاتهم الأصلية لديهم هويات خاصة لا يرغبون في إظهارها, فيميلون مثلاً إلى إخفاء الديانة أو الجنسية وكل ما يدلّ عليهما من لباس ولغة وطقوس دينية. والسبب الكبير في الهوايات الخفيّة هو الخوف من الاضطهاد أو القمع أو مجرد التصنيف ضمن جماعة معينة تمّ قولبة قيمها عبر انطباعات عامة يعرف الشخص مدى افتراءها وليس لديه أي استعداد لتصحيحها. أما الهويات الثقافية الأخرى خارج نطاق المحددات الكبرى كالجنسية واللغة والدين فإن عدم الوعي بها ذاتياً قد يحول دون قدرة الشخص على فهمه لذاته بشكل جيّد ورسم دائرته الخاصة بشكل يجعله قادراً على تمييز دوائر الآخرين المختلفة ويستوعب حتميّة هذا الاختلاف ويقدّره ويؤمن بأهميته في أي منظومة اجتماعية أو فكرية. وتتجلى أهمية استيعاب هذا الاختلاف في بيئات العمل والدراسة التي لن تحقق الإنجاز والتقدم إلا بالارتكاز على مبادئ كبرى منها التواضع الثقافي الذي يعزز من درجة تقدير المرجعيات الثقافية للآخرين والإيمان بجماليّة التنوّع في الفريق الواحد.
ومثلما نعزّز الثقافة المحلية ونحرص على تصديرها بأجمل صورة, ينبغي أن نحرص في الوقت نفسه على التثقيف الفردي والمجتمعي بأهمية احترام الثقافات الأخرى المختلفة؛ لأن الاحترام في حقيقته يكون متبادلاً وبمنحه للآخرين نكون قد اكتسبناه بجدارة. وهناك وسائل كثيرة لتعزيز التواضع الثقافي لعل أهمها «منهج تعليم اللغة من خلال الثقافة» وهو أحد المناهج العالمية المعروفة في تدريس اللغة الثانية. ومن ذلك أيضاً إقامة المعارض الدولية داخل المجتمع كجزء من عملية المثاقفة بالترفيه الذي يسافر بالأفراد داخل مجتمعاتهم إلى عوالم أخرى تحقّق لهم بهجة الانشراح بمساحة الاختلاف، وذلك من أجل تحقيق الكفاءة الثقافية أولاً لدى الأفراد ومن ثم التأصيل لقيمة التواضع الثقافي في بناء العلاقات الإنسانية الجيّدة عبر مناخ ثقافي صحيّ يعي أهمية التقاطعات الثقافية المختلفة في البيئة الواحدة وبين شخصين من بيئتين مختلفتين.