د. إبراهيم بن محمد الشتوي
ربما يمثل هذا مصطلحاً جديداً فعلاً، جديداً عما عرفناه في معلوماتنا الثقافية إلا أن الحقيقة أن هذا المصطلح نتاج واقع حياتي موجود لا يمكن أن نتجاهله نراه في أعيننا، وفي نظامنا اليومي، ونمارسه أو يمارسه بعضنا في تعامله مع الآخر.
غير خاف أن العادات الاجتماعية ثقافة أو يمكن القول إن الثقافة تنعكس على الحياة الاجتماعية ومن هنا فهي تبدو في الأفعال اليومية في العادات والتقاليد، واللباس، والطعام والشراب. وأياً ما يكن، فإن الصلة بينهما صلة وطيدة حيث يمكن القول إن كل واحد منهما ينعكس على الآخر. والأمر المهم أن هذه الثقافة قد تكونت بفعل قرون متتابعة، وهذا ما يجعل الفصل بينهما عسيراً من جهة، ومن جهة أخرى يجعل تحديد السابق واللاحق أكثر عسراً كما يجعل تبين المؤثر والمتأثر كذلك.
والأمر المشكل حين يتصل الأمر بالدين، إذ نجده يتداخل بجانب كبير في العادات حتى ليصبح الفصل بينهما بحاجة إلى عمل فكري عميق تحدد فيه الأصول، والمؤثرات، وتقرر فيه الأحكام الشرعية حسب الأصول والمواضعات المعروفة. وهو عمل ليس يسيراً منذ جعل القدماء العرف شرعاً، وربطوا بين الأحكام الفقهية وعمل أهل المدينة، وجعلوا مخالفة الأعراف تحت مسمى (خروقات المروءة) التي تقدح في الشهادة والنزاهة.
لكن بعيداً عن هذا المشكل نستطيع أن نعالج المسألة في بعدها العاداتي المنفصل عن الدين أو الممكن الفصل على أقل تقدير الذي يبدو فيه الفرق واضحاً وكبيراً، بحيث يبتعد المزج بينهما.
وفي هذا الصدد أيضاً يمكن أن نبتعد عما يمكن أن يوصف بأنه نوع من تمحكات الفقهاء التي يصنعون فيها الأحكام الشرعية من لا شيء.
على كل هذا باب طويل في البحث والنقاش يمكن ألا يقتصر فيه البحث على الفرق بين العادات والشرائع بل يمتد إلى جوانب أخرى من أحكام المجتمع. بيد أني هنا أريد أن أتناول مسألة الثقافة ببعدها القائم على العادات والتقاليد، بوصفها جزءاً منها، وفي هذه الحالة يمكن أن يكون الموقف منها موقفاً ثقافياً بمعنى أنه بسبب الموقف من العادات الاجتماعية يكون الموقف أيضاً من الثقافة، وبناء عليه يكون الموقف متصلاً بالثقافة ومعبراً عنها.
قد لا يبدو للوهلة الأولى أن الأمر ذو أهمية أو أنه بالغ الخطورة بين الوضوح، ولكن حين نتأمل الظاهرة وما ينتج عنها نجدها ظاهرة ذات أثر وانعكاس على الواقع كغيرها من الظواهر الثقافية ذات الانعكاس الاجتماعي، فحين نرى شخصاً أو جماعة تتخذ موقفاً معيناً من شخص أو جماعة بناء على ثقافتها، فتمارس التقوقع والانعزال أو تمارس الإقصاء والإبعاد بناء على هذا الموقف، فنجدها مثلاً تخصص أماكن يجتمع فيها أصحاب الثقافة الواحدة أو تمنع منها أصحاب ثقافة معينة كأن تمنع الذين يلبسون نوعاً من البناطيل أو القمصان، أو تمنع الذين يلبسون اللباس التقليدي، وتعده نوعاً من التخلف الذي يخالف مستوى المكان أو أسلوبه أو نمط المشروبات فيه، أو تمنع قصات شعر معينة أو تفرض قصات أخرى.
والأمر المهم أن العادات والتقاليد هي في الغالب من هذا القبيل إما تتصل بالملابس أو بالطعام أو بالتعامل، وربما اتصلت باللغة والأجناس االقولية والغناء. وبعض الشعوب يعلي من قيمتها إعلاء كبيراً ويمنحها أهمية كبيرة، فيجعلها مدار حكمه، ومنتهي علمه. فيخاصم ويخادن عليها، ويوالي ويعادي لأجلها، ويعدها القول الفصل الذي ليس بالهزل.
وأذكر في هذه المناسبة أن زميلاً لي يقول كنا نعمل في إحدى هيئات الإغاثة الإنسانية في إحدى قرى الكرد شمال العراق، وكانوا ينظرون إلينا شزراً، ولا يخالطوننا إلا نزراً. يقول: فجاء رجل له خبرة سابقة معهم، وقال: إن كنتم تحبون أن تقتربوا منهم، ويزيلوا هذه الوحشة منكم فالبسوا السراويل الكردية السوداء ذات البطون الواسعة وستجدون تعاملهم ينقلب رأساً على عقب، يقول صاحبي: وهذا الذي حدث، فقد قام بعض البعثة الإنسانية بلبس لباسهم، واعتمار عمائمهم فانفرجت أسارير الكرد، وجعلوا يضاحكونهم، ويأخذونهم بالأحضان وكأنهم أهل لهم جاءوا بعد طول غياب.
وعلى هذا، فإننا لا يمكن أن نعد هذا إلا نوعاً من الفصل الثقافي بناء على أنه قائم على الثقافة في أسبابه ومعطياته، وعلى اعتبار هذه المكونات أداة للتفريق والتمييز بين الناس، وهي حالة ليست نظرية تحليلية ولكنها واقعية في حياة الناس يعيشونها كل يوم.
هنا تتحول الثقافة إلى أداة ليس للتمايز والمعرفة وإنما للتنافي والقطيعة، يميز الناس بعضهم بعضاً ليتخذوهم أعداء وأنداداً وخصوماً، يخرجونهم من دائرة الحضارة مرة، ومن دائرة الإنسانية أخرى، يتحارب الناس من خلالها، ويصفي بعضهم بعضاً، ولكن بصورة مختلفة عن الصورة المعتادة. إنها من خلال إلغائهم، ونفيهم من الوجود وإخراجهم من الحياة بفعل ثقافي أيضاً قائم على الإقصاء وممارسة الإماتة الحقيقية. عن طريق تخييرهم بين أن يكونوا مع الثقافة أو ضدها، بين أن يتخلوا عن ثقافتهم أو أن يتمسكوا في ثقافتهم وينصهروا في الجماعة التي تمثل تلك الثقافة.