أ.د.عبد الله بن سليم الرشيد
في سبيل معرفة مصادر الأدب وأركانه، وفي طريقنا إلى قراءة التراث الأدبي تواجهنا كلمة ابن خَلدون الذائعة: «وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصولَ هذا الفنِّ وأركانَه أربعة دواوين: وهي (أدب الكتّاب) لابن قتيبة، وكتاب (الكامل) للمبرِّد، وكتاب (البيان والتبيين) للجاحظ، وكتاب (النوادر) لأبي علي القالي البغدادي، وما سوى هذه الأربعة فتبَع لها، وفروعٌ عنها».
وهذه الكلمة تقتضي النظر والتأمّل: فابن خلدون متأخر (ت808هـ) وليس بين أيدينا -فيما أعلم- من جمع هذه الكتب الأربعة في قَرَن، وشيوخ ابن خلدون هنا مجهولون، علمًا أنه قال عن كتاب (الأغاني): «لعمري إنه ديوان العرب، وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كلِّ فنّ من فنون الشعر والتأريخ والغناء وسائر الأحوال، ولا يُعدَل به كتابٌ في ذلك فيما نعلمه، وهو الغاية التي يسمو إليها الأديب، ويقف عندها، وأنّى له بها؟». فالأغاني، إذن، مقدّم في رأيه على الكتب الأربعة. ولكنه لم يُجعَل –على ما نقل عن شيوخه- من أركان الأدب وأصوله! فضلًا على أنه قُرِن بالكتب الثلاثة كتابٌ مختلفٌ عنها كلّ الاختلاف، وهو (أدب الكتّاب أو الكاتب)، الذي يندرج في الكتب التعليمية الصِّرف، فهو يضع للكتّاب قواعد الكتابة، ويعرض لبعض الفروق اللغوية التي يُحتاج إليها، وما أشبه ذلك.
وليست المسألة أن (شيوخ ابن خلدون) أرادوا (الأدب) بمفهومه القديم، وهو (الأخذ من كل فنّ بطرف)، إذ لو أُرِيد هذا، لذُكِرتْ كتبٌ في النحو والتاريخ والتراجم والبلدانيات وغيرها.
ثم نقف على كلمة لابن سعيد الأندلسي، نقل فيها أن شيخه الأعلمَ البَطَلْيَوسي قال له: «عليك بأركان الأدب الأربعة، (البيان) للجاحظ، و(الكامل) للمبرِّد، و(الأمالي) للقالي، و(الزهرُ) للحُصْري»، وابن سعيد نفسه يذكر أنه قرأ على بعض مشايخه كتاب (الذخيرة)، وقراءة الكتاب على شيخ دليلٌ على أهميته في بابه. وها هنا اتفاق وافتراق، وكأن كلمة ابن سعيد أقرب إلى الصواب، إذْ (زهر الآداب) حريٌّ بأن يُقرن بالكتب قبله، لمقاربته إياها مضمونًا ونمطًا وغايةً.
والحكم في الخبرين السالفين صادر عن مغربيّيْن، فهل كان لأهل تلك الأصقاع مذهبٌ في تلقي الأدب، ورؤيةٌ في الحكم على أصوله وأركانه ليست عند المشرقيين؟
إنني لم أجد من المشارقة من نصّ على ذكر الكتب الخمسة الواردة أعلاه على أنها أركان الأدب، والمسألة بلا شك تقتضي التروّيَ، فلعل بعض المشرقيين أشار إليها. غير أن المسألة تثير الفكر، وتحتّمُ النظرَ في أسباب انفراد الأندلسيين والمغاربة بذكر تلك الكتب، ثم هل يُفهم من الكلمتين –عن الأعلم وابن خَلدون- أنهما –ومعهما شيوخ الأدب في المغرب- لا يرون في نتاجهم المغربي والأندلسي ما يستحقُّ أن يُذكَر على أنه من الأصول والأركان؟ وهل لذلك علاقة بضمور الاستقلال الثقافي والأدبي عندهم؟
ثم إننا نجد خبرًا مهمًّا عن العالم المشرقي ابن دُريد (ت321هـ)، وقد تذاكر جلساؤه المتنزّهاتِ، فقال: هذه متنزّهات العيون، فأين أنتم عن متنزّهات القلوب؟ قالوا: ما هي يا أبا بكر؟ قال: (عيون الأخبار) للقُتيبي، و(الزهرة) لابن داود، و(قَلَقُ المشتاق) لابن أبي طاهر. وهذا الخبر يُظهر أن لبعض المشارقة رؤيةً مخالفةً، فهذه الثلاثة التي ذكرها ابن دريد – وهو هو- غير مذكورة في أصول الأدب في كلام العالمين المغربيين المذكورين.
فالمسألة إذن اجتهاداتٌ تختلف وتأتلف، ومذاهب في الاستحسان تغرّب وتشرّق، وليست تلك الكتب كافيةً، وإن كانت من أمّات المدونات التراثية التي تُعقد بها الخناصر.
وينبني على هذا أن نأخذَ أركان الأدب وأصوله على أنها متعددةٌ تعدّدَ العلماء واجتهادهم، وألا نحصر اهتمامنا بالكتب الأربعة المشهورة التي صار ينقلها خلف عن سلف، على أهميتها.