يقول الدكتور غازي القصيبي -رحمه الله-: «أن أكون أصغر إنسان. وأملك أحلاماً. والرغبة في تحقيقها. أروع من أكون. أعظم إنسان. بدون أحلام».
مر أحد التجار على طفل في السادسة من عمره، يجلس على عتبة باب منزله الصغير، وكانت تبدو عليه طمأنينة تدعو للاستفهام، فسأله التاجر ماذا تنتظر؟ فأجاب الطفل: رأيتني في الحُلم انتظر على عتبة هذا الباب. فاستيقظت وخرجت وجلست! فكرر التاجر سؤاله على الطفل وقال له: ماذا تنتظر؟ قال انتظر القادم الأجمل. فتبسم التاجر، واربت على كتف الطفل ومضى في طريقه. فسأله خادمه: ما الذي يبهجك يا سيدي؟ فأجاب التاجر: إيمان الطفل العميق بأحلامه جعله يقف على عتبة بابه ينتظر القادم الأجمل، وأنا أسير على أرض الواقع لا أحمل ذرة من إيمانه العميق!
فما هو الفرق بين رؤية ذلك الطفل الصغير، ورؤية التاجر الذي يكبره في العمر أعواماً عديدة؟
يقول إيريك فروم: من المُسلَّمات أن الأحلام لغة منسية، تَشارَكها جميع سكان الأرض منذ القدم حتى اليوم، وانكب عليها الفلاسفة والفنانون والمحللون النفسيون لعدة قرون لمحاولة قراءتها، وتحليلها، والتوصل إلى ماهيتها، وعلّتها، وأهميتها. وربما لهذا دوَّن ملوك بلاد ما بين النهرين أحلامهم على ألواح الشمع في الألفية الثالثة قبل الميلاد، وبعد ألف عام كتب المصريون القدامى في كتاب الحلم تعداد أكثر من مئة حلم مشترك ومعانيها، وأشار القرآن الكريم إلى الأحلام في أكثر من موضع؛ فوردت في قصة يعقوب ويوسف -عليهما السلام-، إذ تجلَّت للنبي يعقوب رؤيا كان فيها يوسف -عليه السلام- مُحاطاً بعشرة ذئاب، والذئاب تنبيه بأن شيئاً على وشك أن يقع. كان يعقوب على جبل، ينظر مُشفِقاً على يوسف في السهل، ولا يملك أن يرد عنه كيد الذئاب، فتألَّم لعجزه، وعلى حين غرة بينما كان يوسف يعاركُ الذئاب؛ انفرجت الأرض له فغار فيها، وتفرّقت عنه الذئاب. فيما بعد، طلب أبناء يعقوب منه أن يأخذوا يوسف معهم، فقال لبنيه: (وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون) [سورة يوسف - الآية: 13]. وتمضي السنون، ويُساق يوسف إلى السجن ظلماً، يُفسِّر حلمَيْ سجينين معه، أحدهما خباز والآخر ساقي خمر، وفيما بعد يُفسِّر حلم الملك، قائلاً إن البقرات السمان والسنبلات الخضر التي حلم بها الملك هي علامة على سبع سنين يكثر فيها الخير وينجو الناس فيها من الهلاك، مُقدِّماً لهم الحل السليم تجاه هذه الأزمة، وهو أن يدَّخروا في سنوات الخير ما ينفعهم في سنوات القحط والحاجة. وكان تفسيره للحلم مطابقاً لما حدث في الواقع.
فالأحلام قصص وصور، واقعية أو خيالية، تنسجها أذهاننا خلال النّوم، وتحدث في أي وقت خلال دورة النوم، ولكنّها تكون أكثر عمقاً ووضوحاً أثناء فترة «الريم» (REM) (وهي مرحلة الحركات السريعة للعين)، ويحدث أن تكون بعض الأحلام واضحة (أيّ إننا نعلم خلالها بأننا نحلم)، وهي حالة متوسّطة بين الحلم واليقظة يكون خلالها الدّماغ قد بلغ ذروة نشاطه وفعاليّته.
وتُظهِر أحدث نتائج اختبارات علم الأعصاب أن الحلم ضروري لتنظيم المشاعر، بالإضافة إلى حل المشكلات بطرق إبداعية. فالإنسان المستيقظ تتلخص مهمته في الحفاظ على بقائه؛ لذا فهو يخضع للقوانين التي تحكم الواقع، مما يعني أن عليه أن يُفكِّر ضمن إطارَيْ الزمان والمكان الذي يعيش فيه، وأن أفكاره خاضعة لقواعد ذلك المكان. في حين أن الإنسان النائم لا يهتم أدنى اهتمام بإخضاع العالم الخارجي لغاياته ومآربه، إذ إنه يصبح في اللاوعي فالنائمون أموات، ولكنهم أحرار فيما يحلمون.
فالحلم إذن لا يقتصر على إلقاء الضوء على العلاقات القائمة بين الأنا والآخرين، ولا على إطلاق الأحكام الثاقبة والتكهُّنات؛ بل يتعدى ذلك فيصبح مجالاً لرسم الخطط والأهداف؛ فعند استغراقنا في النوم، وعند خلوتنا بأنفسنا، نكون قادرين على التبصر في أمر ذواتنا بمعزل عن تأثير الضوضاء والضجيج وبمنأى عن الحماقات، فنشعر بشكل أفضل، ونفكر بشكل أسلم، وتكون أحاسيسنا وأفكارنا أقرب إلى الحقيقة.
وخلاصة القول إن هناك ارتباطاً تفاعلياً سيكولوجياً بين الواقع الذي يعيشه الإنسان وبين ما هو كامن في جوفه ورؤيته لمستقبله تعبر عنه الأحلام؛ وهي في الحقيقة انعكاس لأفكار ذلك الإنسان ورغباته، وصورة حقيقيه لواقعه ومستقبله.
فعلينا أن نربي أبناءنا على الإيمان بأحلامهم لتحقيق أهدافهم على أرض الواقع. وبذلك ستسهم حالة اللاوعي في مساعدتنا على تحفيزهم لبناء مستقبل واعد فالتربية الإبداعية مسلك حياة.
لعل التاجر عرف الآن مصدر عمق إيمان ذلك الطفل بأحلامه، رغم الفقر ولربما الجوع عند عتبة منزله الصغير.
** **
- د. نوف بندر البنيان