بشكلٍ ملحوظ تغير الرياضُ تحيتها من اللهفةِ المّادةِ للقلوبِ شغفَ الهيامِ، إلى مَدَّةٍ تتصلُ بالتفاصيلِ كافةً مُبقيةً شذرًا جميلاً بعد عبورها اللطيف...كم مرّة، شرِبتُ قهوتي وقد غُمست من ذاكرةِ الرياض، فأصبح جسدي في زهوٍ ربيعي، كيفما أغمسُ الشوكلاته أو الشابورة لأذوق طعم الكلماتِ في الحكايا التي تُروى عليّ، ثمّ تأخذ مِني مساحةً تعيشُ فيها، بيتًا لطيفًا بحديقةٍ ذات معانٍ مختلفة الأشكالِ والألوان. إن هذه المدينة الحلوة تسري في دمي جاريةً عبر أحلى ما مررتُ بهِ ليكون لها يدٌ في بتِ هذا التاريخِ في الوجودِ عميمًا، كم أُحبها وأيامها التي لا تشبهُ غيرها، فهي تتلمسُ الشموخَ في امتدادنا، وتعيد تشكيل الوجوه لتترك عليها ألقًا عجيبًا. كم مرّة لقيتُ الحُب ساريًا فيها، وفي كل الأنحاء، لم يعد لقاؤه صدفةً إذ يعيشُ في القلوبِ القاطنة في فسحةِ العالم الوفيرة؛ الرياض!
أتلمسُ الحنايا في قلبي، هذه البصيرة المُسافرة في النور، وألون الأجناس الساعية بي، عدتُ لطفولتي راسمًا القِصص التي ترويها جدتي حيثُ لم ترحل أبدًا، و أصقل الكلمات عبر الأدوات الحادةِ حين تركها صديقٌ عزيز تسعى في دواخلي من احدى رواياتهِ، تغيرت الهويات، وأصبحت هاويًا في سمواتِ العشقِ، ململمًا في وتينِ المدينةِ، تطلع عينيّ عبر الأبراج، عبر الزجاج الذي يعكسُ الأحداث التي مررت بُها، وللرسومِ المتحركة التي شاهدتني عندما لعِبت وتركتها وحيدةً في شاشةِ التلفاز فغرست أنفاسها أوتادًا في دمي النضّاح... حتى قريتي الحبيبة خرجت من الرياض، مرسومة بطينةِ قلبي الهاوي، ومكتبةُ جدي المُفرّسة في سحنِ سلالتهِ عبر المدى تعيثُ بالذكرياتِ أدبًا جديدًا وتطرق الباب من جديد للحنين.
أحنُ إليّ لامًا ذاتي في البقاعِ أمام النهرِ الرضي أشربُ الماء الذي نبعتُ مِنه، متلمسًا وجهي الغائب حيثُ يتمشى في أحداقِ الوجوه الأخرى، وفي المكابدةِ تتقاطر ندىً يسقي الأزهار صبابةً حلوة. أمام المرآة، قرأتُ في عيني قصيدتي الأولى، وأمام المرآة رأيتُ سحن الراحلين تأخذُ من سُحنتي موضعًا، يا لهذهِ السحنة التي اختارت أن تكون وطنًا لا يغيبُ عنه النور، أن تكون أرضًا لأشجارٍ تطورت لتكون فؤوسًا وقطع أثاثٍ أو عِصي حلوى بديعة، وأين ما كانت فهي قد خرجت من ذاتِ الباب الذي عادت إليهِ بجسدٍ آخر، وهو القلب الذي يربتُ عليها مهما بالغت الأحوال في تعجينه وتغييره فهو الغيمةُ الماطرة على الروح.
نسيتُ اسمي؛ لأن الأسماء قد خرجت من رحِمه، فغدوت في رحيلي أشدُ بقاءً، جِذرًا للذواتِ التي تناديني يا عاهل آلام العالمين، يا لغةَ الصمت المديد! من فوق، حيثُ العلا، هبطتُ لكني لم أنزل سلمًا قط فما زلتُ أغادر الغلاف الجويّ، حتى الذكريات التي تتشبث بي تعود أدراجها بالتساقطِ في خريفٍ دوام، هذا الفراغ الذي يلمني يرحل، لم يعد في البقاءِ بقاء، يا فنائي، يا جسدي التارك، يا طينتي التي ظنت بالحقلِ بقاءً... هل مسست عبقك الآن فيما عداك؟ يا لغةَ حزن الوجود الآن تُعمر بالسعادة، والآن يرقص بك الفرح أبدًا.
من فوق، أتناول قهوتي، على كُرسي السماءِ، وفي من الأجسادِ وطنًا للصبابةِ، أتدفق على الأرضِ التي تشتهي حُلمي، وتعشقُ صمتي، وقد نبتت أزهار الكرز على يديّ بانهمارٍ للهبوط اللطيف، وقد عمّ السكون ناطقًا في القهوةِ التي تغمرُ المدينة بخفقِ الرؤوس إلى فلاحٍ مُستطاب! من فوق، حيثُ يتساوى الصعود والهبوط، حيثُ تصبح الدرجات تمظهرًا لحالةِ الحُب، وللوجودِ الذي لا يعرفُ إلا مستواه الوحيد حيث نهض حيًا.
** **
- هيثم البرغش