كان النَّقد قديمًا يعتمد على الانطباع والتَّأثر بالدَّرجة الأولى، فلا مناهج تُحدد آليته، ولا قيود تحكمه، وإنَّما ينتج عن آراء أُناس لهم طولُ مُتابعةٍ للأدب وباعُ اشتغالٍ عليه، فتأتي أحكامهم النَّقديَّة تِبعًا لذوقهم الشَّخصيّ، أو لرُؤيتهم الفِكريَّة للفنّ، أو مدى حصول الأثر العاطفيّ لديهم من الأدب المطروح أمامهم، ثم ما لبث النَّقد أن تطوّر بأُسس ومناهج وقواعد موضوعيَّة تحِيد به عن تلك الآراء الذّاتيَّة.
إلا أنّ ذلك النَّقد الانطباعيَّ التَّأثّريّ لم ينتهِ تمامًا، وإن خبا بريقه زمنًا، فقد عاد إلى السَّاحة النَّقديّة في العصِّر الحديث، إبَّان القرن التَّاسع عشر، متأثرًا بأفكار كانط في الفلسفة الجماليّة، وأصبح له رواده ومعتنقوه، من مثل البرناسيين (دُعاة الفنِّ للفن)، والرَّمزيين، وبعض الفلاسفة الحَدَسِيين، وبعض متأخري الرومانتيكيين، وبذلك نشأت المدرسة الانطباعيَّة أو التَّأثُريَّة، وعلى رأسها وليم هازلت، ولامب، وإليوت، وأندريه جيد، وأوسكار وايلد وغيرهم.
وكان لهذا التيَّار التَّأثريّ أتباعه من العرب، فهذا محمد مندور يقول مدافعًا عن المنهج التَّأثريّ الانطباعيَّ: «المنهج التَّأثري الذي يسخر منه اليوم بعض الجهلاء، ويظنونه منهجًا بدائيًا باليًا لا يزال قائمًا وضروريًّا وبديهيًّا في كلِّ نقدٍ أدبيٍّ سليم، ما دام الأدب كلّه لا يُمكن أن يتحول إلى معادلات رياضية أو إلى أحجام تُقاس بالمتر أو تُوزن بالغرام أو الدرهم»().
وقامت مبادئ المدرسة التَّأثُريَّة على قياس مدى تفاعل المُتلقِّي مع نتاج المُؤلِف، ومدى الأثر الذي يُحدثه الأدب في نفسه، وما يُثيره من مشاعر باطنة، وما يستثيره من خواطر كامنة، فهي تهتّم بذات النَّاقد وفكره ومشاعره أكثر من ذات الأديب وأدبه، كما أنّ جلّ اهتمام هذه المدرسة في المُتَّعة الذّاتيّة الحاصلة من تلقِّي الأدب.
في الوقت ذاته ينتقد رُواد المدرسة التَّأثُريَّة على النُّقاد الموضوعيين عدم صراحتهم في اتّخاذهم المقاييس النَّقديّة لتمرير أفكارهم الشَّخصيَّة وأذواقهم الخاصّة، وتعاليهم عن الإفصاح بعاطفتهم الحقيقية، وأن منهجياتهم النَّقديّة المنطقيَّة جامدة، ومفتقدة لروح العاطفة والتَّأثر، وتُفقد العمل الأدبي مُتعته الفنِّيّة.
هذه المدرسّة النَّقديّة الانطباعية التَّأثُريَّة جاءت متزامنة ومتلاقحة مع جوانب شتى من الفُنون، كالشِّعر والرَّسم والموسيقى، وأصبح من الدَّارج أن يجمع النَّاقد التَّأثري بين نقده وبين نتاجه الأدبي شِعرًا أو كتابة أدبية، ومن هنا جاءت حملة رواد هذه المدرسة تشنُّ انتقاصهم للنَّقاد غير المنتجين أدبيًّا، وأنَّه لا يحقّ لغير الفنَّان النَّقد، إلى حدِّ إنكار بعض معتنقي هذا المذهب لقيود النَّقد كلَّها كما فعل فيكتور هوجو، وإليوت.
والحقّ أن هذا الرأي يُجانب الصَّواب، فالتّذوق الذي هو أساس مذهبهم النَّقدي ليس حكرًا على الفنَّانين والأدباء والمُبدعين فقط؛ وإنَّما هو سِمة إنسانيَّة مُشتركة بين البشر، ولا يستدعي أن يكون المرء أديبًا ليرى جماليَّة الأدب، ثم إن أرسطو لم يكن فنانًا مُبدِعًا، إلا أنّ أراءه النَّقديّة أفادت التاريخ النَّقدي على مرّ الأزمنة.
وممّا يُؤخذ على هذا النَّقد أنَّه قاصرٌ عن الإفادة للأديب وتوجيهه، وتقويم عمله، ومُقصِّرٌ في الوقت ذاته عن إفادة القُراء وتمييز الأعمال الفنِّيّة الرديئة من الجيدة، إذ جلّ اهتمام هذا النَّقد في الأثر النَّفسيّ والمُتعة الخاصّة التي تحصل لناقده، وانعكاس العمل الأدبي على فكره ومشاعره، منقطع بذلك عن الأديب وعن مقومات أدبه، وعن مجتمعه.
إلا أنّه مما ينبغي التَّنبه له أن مسألة الموضوعيَّة والمنطقيَّة في النَّقد لا تخلو من الذاتيَّة، ولا يستطيع النَّاقد حقيقةً التَّخلص من ذاتيته بشكلٍ كُليّ، والتَّجرد من ذوقه ومزاجه الخَّاص تمامًا، فأول العمليَّة النَّقديَّة التي تبدأ باختيار العيِّنة؛ تشِي بجانب من ذاتية النَّاقد، إذ مهما وضع لاختياره من مُسوغات إلا أّنه لا ينفي ملائمة العمل لذائقته الخاصّة، وإحساسه بالجمال تجاه هذا العمل، ورغبته في الاشتغال عليه، والعلميَّة النَّقديَّة برُمّتها وجهة نظرٍ إنسانيَّة تحتمل الصواب والخطأ، ومُعرَّضة للنقصان والخلل، وتسمح بتعدد التَّأويلات والاتجاهات، بيد أن ترك المساحة النَّقديّة للانفعال الشَّخصيَّ والذَّائقة الخاصّة قد يُلحق بالعمل العبثيّة والفوضوية التي تخلّ موازين الأدب والنَّقد.
** **
- مشاعل عمر بن جحلان