يتفاعل الإنسان مع محيطه دائماً من خلال حواسه بهدف الكشف عن عناصر ذلك المحيط، وفهمها، والتكيّف معها، وذلك لضمان التفاعل معها والاستفادة منها أو إدخالها ضمن محيطه التكيّفي، ويأتي على رأس تلك الحواس حاسة البصر، وقد أدرك الإنسان منذ فجر التاريخ محيطه الذي عاش فيه من خلال حواسه بشكل عام، ومن خلال حاسة البصر لديه بشكل خاص، وتفاعل مع ذلك المحيط وعبّر عنه بشكل بصري أكثر من أي لغة أخرى، وهذا ما نقلته لنا رسوماته، وأدواته، وعمارته كناقل بصري لحضارته عبر العصور.
إن النظر إلى الأشياء من حولنا لا يقف فقط عند العملية الفيزيائية أو الفيزياء البيولوجية إنما هي عملية معقدة ومركبة تمتد إلى أن تكون عملية نفسية وفكرية وفلسفية، وتعتمد على خبرات الشخص السابقة ومدى تجاربه، وبالتالي فإن هذه العملية - وأعني العملية البصرية- هي أشبه ما تكون مجموعة من المهارات التي لا بد على الشخص من تعلمها والتدرب عليها إذا ما أراد أن يكون قارئاً للصورة المرئية، فعناصر الصورة المرئية من خطوط، ألوان، أشكال، مساحات وأحجام، وغير ذلك لها دلالات شكلية، وأخرى ضمنية تساعد في قراءة الصورة وفهم معانيها ومدلولاتها وتفسيرها والإفادة منها، كما أن قراءة المنظر الطبيعي الذي يقف أمامه المشاهد يختلف عن قراءة صورة فوتوغرافية لذلك المنظر، ولو ذهبنا أبعد من ذلك فإن قراءة الأعمال الفنية تختلف عن بعضها طبقاً لتلك الأعمال وطبيعتها، فقراءة عمل تصويري تختلف عن قراءة عمل نحتي، بل إن قراءة عمل تصويري واقعي تختلف عن آخر تجريدي على سبيل المثال، وهكذا فإن قراءة الصور تختلف باختلاف طبيعتها المادية والضمنية أيضاً، وهذا ما يتطلب مهارة ودربة، ولذا فقد بدأ العالم منذ بدايات القرن العشرين تقريباً بالاهتمام بالعملية البصرية، ثم انتقل العالم في نهايات الستينيات من نفس القرن إلى الاهتمام بما يُسمى بالثقافة البصرية، وما يطلق عليه بمحو الأمية البصرية، حيث تظافرت جهود عدد من الجامعات والمؤسسات المهتمة بالفنون في إنشاء المجلات، والمجموعات، والروابط، والجمعيات التي تعنى بمحو الأمية البصرية، واليوم تعد الرابطة الدولية لمحو الأمية البصرية من رواد البحث والتثقيف في هذا المجال.
إن محو الأمية البصرية هي أحد مجالات الدراسة والممارسة التي تكشف لنا كيف نرى الصورة؟ وكيف نفسرها؟ وكيف نستخدمها في نقل المعنى والتفاعل معه؟ وكيف نستطيع من خلال الصورة نقل أفكارنا، ومشاعرنا؟ فإذا كان محو أمية القراءة والكتابة يهدف إلى تعليم وتعلّم القراءة والكتابة وإدراك مهاراتها، فإن محو الأمية البصرية هو تعليم وتعلّم مهارات اللغة البصرية وإدراك قراءة الصورة المرئية.
وإذا كان الإنسان منذ فجر التاريخ قد تعامل مع محيطه الواقعي ضمن حاسة البصر وحواسه الأخرى فهو الآن يتفاعل مع محيطه الذي لم يعد واقعياً ضمن ما تشاهده العين في الطبيعة أمامها فقط، بل أصبح محيط الإنسان اليوم ومع تفجر الثورة التكنولوجية محيطاً رحباً واسعاً، محيطاً رقمياً ومحيطاً افتراضياً، وهذا ما يجعل الإنسان يتعرّض إلى مجموعة من العناصر المرئية التي تحمل ثقافات عالمية متعدِّدة من خلال الشاشات الرقمية التي تبث الفضائيات، ومحتوى مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تعج بالكثير من الصور المرئية المختلفة شكلاً ومضموناً، معبرةً عن ثقافات أيضاً مختلفة، الأمر الذي جعل الإنسان يعيش واقعاً بصرياً عولمياً وهو ربما يعيش في مجتمع صغير في طرف من أطراف العالم، ولذا فإن هذه الصورة المرئية العالمية الثقافة تحتاج إلى مستوى آخر من الفهم والإدراك، وهذا ما يعني أن الإنسان بحاجة إلى مستوى آخر من المهارة والنقد لقراءة هذه الصورة ثقافياً وبصرياً، كما أن الناقل لهذه الصورة لم يعد أداة تقليدية، بل أصبح ناقلاً رقمياً يسهل معه نقل الصورة، وتزويرها، وتغيير ملامحها، وهذا مجال آخر تبحث فيه دراسات محو الأمية البصرية وهو كيف نقرأ الصورة قراءة نقدية نستطيع من خلالها كشف التزييف والتحويل في الصورة الثابتة والمتحركة؟
** **
د. عبد الله الثقفي - أكاديمي سعودي